إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة: السلام الدائم مرهون بوضع حد لدوامة الإفلات من العقاب

23/09/2009

إن تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن الصراع في غزة قد أكد من جديد على أهمية العدالة في تحقيق سلام دائم في إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة.

ويوثق التقرير الصادر في 15 سبتمبر/أيلول 2009، والذي يقع في 575 صفحة، انتهاكات القانون الدولي التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية وحماس وغيرها من الفصائل المسلحة، والسلطة الفلسطينية. وخلصت بعثة تقصي الحقائق إلى أن بعض هذه الانتهاكات قد يبلغ حد جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية؛ كما يخلص التقرير إلى أن المسؤولية عن محاسبة من زعم ارتكابهم للانتهاكات من إسرائيليين وفلسطينيين تقع على عاتق مؤسساتهم وسلطاتهم الوطنية؛ ولم يفِ أي طرف بهذا المعيار حتى الآن..

وإذا ما تقاعست تلك السلطات عن القيام بجهود حقيقية ومستقلة في هذا الصدد، فسوف يكون لزاماً على المجتمع الدولي اتخاذ إجراء ما من خلال مؤسسات مثل المحاكم الوطنية او الدولية. والمركز الدولي للعدالة الانتقالية يحث إسرائيل والسلطات في قطاع غزة على المسارعة بإجراء تحقيقات مستقلة بشأن ما حددته البعثة من انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

ويعتقد المركز الدولي للعدالة الانتقالية أن التقرير يعد بمثابة تذكرة قوية تعيد إلى الأذهان ضرورة إرساء أساس راسخ من العدالة في الوقت الذي يسعى فيه المجتمع الدولي لاستئناف المفاوضات الثنائية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. فقد كانت ظاهرة الإفلات من العقاب التي طال أمدها من العوامل المهمة التي تكمن وراء فشل مساعي إحلال السلام في المنطقة منذ أكثر من 15 عاماً.

النتائج

بينما كانت لجان التحقيق السابقة التابعة للأمم المتحدة هدفاً سهلاً للانتقادات بسبب ما بدا من تحيز صلاحياتها، فإن البعثة التي قادها القاضي المرموق ريتشارد غولدستون كانت تتمتع بصلاحية التحقيق في الانتهاكات التي ارتكبها أي طرف كان في الصراع، ومن ثم فإنها تقدم طائفة واسعة من النتائج.

وفي ثنايا تحقيقاتها، عثرت البعثة على أدلة تثبت اقتراف القوات الإسرائيلية لانتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي؛ وتشمل الانتهاكات المزعومة التقاعس عن اتخاذ الاحتياطات الممكنة عند شن الهجمات؛ والتقاعس عن احترام مبدأ التمييز، وبخاصة الهجمات على المدنيين؛ والاستخدام المحرم لأسلحة معينة؛ واستخدام دروع بشرية؛ والاعتقال التعسفي؛ وتدمير الممتلكات بلا موجب ولا استفزاز. كما عثرت البعثة على أدلة على انتهاكات من قبيل التدمير المتعمد لمنشآت المؤن الغذائية، وأنظمة الصرف الصحي، ومنشآت الرعاية الصحية، ومراكز الشرطة، والمباني السكنية. كما تناولت تحقيقات البعثة الحصار الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ سنوات، والسياسة المنظمة التي تنتهجها إسرائيل بهدف عزل قطاع غزة وحرمانه على نحو يتصاعد بصفة مطردة. وقد حققت البعثة في عدد من الوقائع التي تشكل جرائم حرب أو ربما جرائم ضد الإنسانية.

ومن خلال تحقيقات لا تمت بصلة مباشرة للصراع الذي شهدته غزة، وثقت البعثة أيضاً انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المتعلقة بمعاملة قوات الأمن الإسرائيلية للمعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقمع السلطات الإسرائيلية للانتقادات من جانب المواطنين الإسرائيليين.

كما تناول التقرير الانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل الفلسطينية المسلحة، وبالأخص الإطلاق المتكرر للصواريخ وقذائف الهاون على جنوب إسرائيل؛ وخلص إلى إن إطلاق مثل هذه الصواريخ، التي لا يمكن تصويبها بدقة كافية، وبالتالي فإنها لا تميز بين الأهداف العسكرية والسكان المدنيين، يشكل جرائم حرب، بل وربما جرائم ضد الإنسانية. كما أن إطلاق هذه الصواريخ على مناطق مدنية، تخلو من أي هدف عسكري مقصود، هو بمثابة هجوم مباشر على السكان المدنيين.

وخارج إطار الصراع، وثقت البعثة ما ارتكبته سلطات غزة، وكذلك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، من قتل الخصوم السياسيين، واعتقال الشخصيات المعارضة وسوء معاملتهم.

التوصيات

بفضل هذه النتائج، خلقت البعثة فرصة للمساءلة تمس إليها الحاجة مساً شديداً؛ وقد قدمت البعثة توصيات واسعة النطاق – للتحقيق والمقاضاة وجهود تقصي الحقائق، والتعويضات – بهدف التصدي لأزمة العدالة في المنطقة، وإرساء أسس سلام طويل الأمد.

فبادئ ذي بدء، تحث البعثة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة على أن يطلب من الأمين العام للمنظمة الدولية إحالة الأمر إلى مجلس الأمن الدولي؛ وتدعو المجلس إلى رصد الخطوات التي تتخذها إسرائيل وحماس لإجراء تحقيقات مناسبة، وما لم يبذل الجانبان محاولات حسنة النية في غضون ستة أشهر، يجب على المجلس إحالة الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما أوصت البعثة الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء صندوق ضمان لدفع تعويضات للضحايا.

والمبدأ الأساسي الذي تستند إليه هذه التوصيات هو أنه ينبغي على المؤسسات والسلطات الوطنية التحقيق في أي انتهاكات تقع من جانبها، ومقاضاة المسؤولين عنها. ولكن التقرير، على غرار مبدأ التكامل الوارد في نظام روما الأساسي، يدرك ضرورة توفر سبل الإنصاف والتعويض في الساحات الدولية.

وإقراراً منه بضرورة معالجة أزمة العدالة في المنطقة، يوصي المركز الدولية للعدالة الانتقالية بما يلي:

  • يجب على كل من إسرائيل وحماس الشروع فوراً في تحقيقات تلتزم بمبادئ الاستقلال، والفعالية، والسرعة، والحياد.

ولئن كان السلطات الإسرائيلية قد قامت بعدة تحقيقات، فإن البعثة شككت في استعداد إسرائيل للقيام بتحقيقات مستقلة بمعنى الكلمة تستوفي تلك المبادئ؛ فالتحقيقات التي جرت حول انتهاكات القانون الإنساني الدولي قام بها الجيش وحده، ولم يجر المحققون مقابلات مع الضحايا ولا الشهود، وتأخر الشروع في التحقيقات أكثر مما ينبغي، مما أدى إلى ضياع أدلة رئيسية. كما أن البعثة ليست على قناعة بأن الفلسطينيين هم الآخرين قد قاموا بأي تحقيقات ذات جدوى.

ويجب على المحققين في أي انتهاكات مزعومة الحرص على نشر النتائج التي تصل إليها تلك الهيئات على الملأ، وأن تكون مستقلة عن الجيش أو أي أحزاب سياسية. كما يجب منح المحققين سلطة التشاور مع الضحايا، والشهود، والجناة المزعومين، وصلاحية إحالة الأمر إلى القضاء لاتخاذ أي إجراءات قضائية تقتضيها الضرورة. وسوف تكون كل الإجراءات ذات أهمية بالغة في تحقيق المصداقية بدلاً من الاستمرار في أوجه النقص السابقة.

  • يجب على المجتمع الدولي أن يضمن تقديم التعويضات، وبالأخص في غزة التي أصبحت في أمس الحاجة لإعادة الإعمار.

فبالرغم من الاعتراف بالتعويضات المستحقة عن الأضرار التي حاقت بمنشآت الأمم المتحدة، فإن الانتهاكات لم تقتصر على تلك المنشآت؛ ولا بد من تقديم التعويضات لجميع الضحايا على وجه السرعة بغض النظر عن هوياتهم. وفي إطار إنشاء صندوق الضمان المشار إليه آنفاً، يجب على إسرائيل والمجتمع الدولي ضمان تقديم مساهمات لهذا الصندوق.

ولئن كانت الانتهاكات التي وقعت إبان القتال الأخير بالغة الفداحة، فلم تكن تلك أول مرة تتعرض فيها غزة للتدمير واسع النطاق أو يكون فيها جنوب إسرائيل هدفاً للقصف بالصواريخ؛ ومن شأن التعويضات أن تطمئن السكان على الأرض، وتلقي في روعهم أن إعادة البناء ليست مجرد فترة انفراج مؤقتة، وأن تكون بمثابة ضمان لعدم تكرر الانتهاكات.

  • إذا فشلت المؤسسات والسلطات الوطنية أو تقاعست عن اتخاذ إجراء، فسوف يصبح لزاماً على المجتمع الدولي محاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات، باعتبار ذلك واجباً قانونياً واقعاً على عاتقه.

ويجب على الدول المائة والأربع والتسعين الأطراف في اتفاقيات جنيف المبادرة بالبحث عن الأفراد الذين زعم ارتكابهم لانتهاكات خطيرة، وتقديمهم إلى ساحة القضاء المحلي، بغض النظر عن جنسيتهم؛ وهذا الأمر هو التزام واقع على عاتق هذه الدول، وليس محلاً للتفاوض.

  • يجب على مجلس الأمن اتخاذ إجراء، بما في ذلك إحالة الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا ما تقاعست إسرائيل وسلطات غزة عن اتخاذ خطوات مجدية لمحاسبة المسؤولين لدى كل منهما؛ ومثل هذه الإحالة سوف توضح أن العدالة لها معيار واحد تلتزم به جميع الدول على السواء.

ولا بد من وضع برنامج عمل قوي يكفل إتاحة سبل العدالة والإنصاف للضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين، باعتبار ذلك خطوة حاسمة نحو إحلال السلام في المنطقة. ومثل هذا النهج سوف يساعد على بناء الثقة لدى المواطنين على أرض الواقع في أن السلام سوف يكون قائماً على سيادة القانون؛ ولا يجوز للمعنيين بصنع السلام تنحية تلك القضايا جانباً، بل من واجبهم إدراجها في صميم أي استراتيجية للسلام في المنطقة.

والمركز الدولي للعدالة الانتقالية يعتقد اعتقاداً جازماً بأن العبء قد صار الآن واقعاً على عاتق الأطراف المعنية والمجتمع الدولي لترجمة تلك الكلمات إلى واقع فعلي.