في ظلال جائزة نوبل للسلام: الإفلات من العقاب لا يزال يشكل تهديداً للعملية الانتقالية في تونس

16/10/2015

بقلم ريم القنطري

اعترف المجتمع الدولي بالدور الحاسم للمجتمع المدني في تونس التي تمر بمرحلة انتقالية، بعد عقود من الدكتاتورية، إلى الديمقراطية وسيادة القانون من خلال منح جائزة نوبل للسلام للجنة الرباعية للحوار الوطني. إن هذا لدفعة قوية للقوى المجتمعية الناشطة التي كانت الشرارة والمحرك لثورة تونس والنضال المستمر من أجل الحرية والكرامة. وبعدـ، فلا يجب أن نغفل عن حقيقة أن الشعب التونسي قد عاد ثانية إلى الشارع ، مطالباً مرة أخرى بالعدالة والمساواة ووضع حد للفساد.

وعلى الرغم من البداية الواعدة لعملية العدالة الانتقالية في عهد الحكومة السابقة، بعد الإطاحة ببن علي، فقد تدهور الوضع. يتزايد غضب الشعب على الحكومة الجديدة، ويرجع ذلك جزئياً لعدم قدرتها على الاستجابة بفعالية لمطالب المجتمع بالمساءلة عن الجرائم التي ارتكبت في ظل الأنظمة السابقة.

وترك البطء العام لتحركات هيئة الحقيقة والكرامة البالغ عمرها عاماً—وكذلك التأخر في استحداث الدولة لآليات أخرى لتحقيق المساءلة— المرحلة الانتقالية في تونس عرضة للهجمات، التي من بينها قوانين جديدة تهدف لتقويض الجهود الرامية إلى معالجة الماضي.

لا تنبثق التهديدات التي تواجهها المرحلة الانتقالية في تونس من الركود الاقتصادي أو الهجمات الإرهابية فحسب، وإنما أيضاً من الفشل على الحفاظ على أهداف العدالة الانتقالية حية باعتبارها أحد موروثات الثورة. إذا لم يتم تصحيح المسار الحالي قريباً، فإن الإفلات من العقاب على جرائم الماضي قد يصبح أكبر تهديد للعملية الانتقالية إلى الديمقراطية في تونس واستقرارها على المدى الطويل.

"بعد عملية تشاور وطنية واسعة المدى في عام 2012، مدعومة بالإرادة السياسية الجديدة المندفعة، مررت البلاد قانون العدالة الانتقالية في عام 2013."
    وقد حرص التونسيون على كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت على مدى خمسة عقود من الدكتاتورية، وتفتيت نظام معقد من الفساد الذي انتشر كما أخطبوط في أنحاء البلاد. وبعد عملية تشاور وطنية واسعة المدى في عام 2012، مدعومة بالإرادة السياسية الجديدة المندفعة، مررت البلاد قانون العدالة الانتقالية في عام 2013، والذي ولد من رغبة واسعة النطاق لمعالجة الماضي من خلال تدابير ملموسة.

لكن اليوم، فإن الحماس الذي ساعد في الإطاحة ببن علي ودفع لتمرير هذا القانون قد ذهب للتسييس والانتهازية. فلم يعد لمنظمات المجتمع المدني المساحة نفسها للمشاركة في العملية كما قبل، وكذلك قاربت الإرادة السياسية لتحقيق العدالة للضحايا وفرص اقتصادية متساوية لجميع التونسيين— وهي المطالب التي نادت بها الثورة— على الجفاف.

يدعم الرئيس الباجي قائد السبسي وحزبه السياسي مشروع "المصالحة الاقتصادية" الجديد والذي من شأنه أن يمنح الحصانة لرجال الأعمال الفاسدين من الملاحقة القضائية في مقابل إعادة الأصول المنهوبة للدولة. وفقاً لهم، تونس بحاجة لفتح صفحة جديدة والتطلع نحو المستقبل من أجل تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد. ولكن القانون المقترح يرسل رسالة خاطئة إلى نخبة رجال الأعمال ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب لفئة معينة من الناس. وقد نتج عن ذلك تجدد الغضب الثوي بين الشباب التونسي، الذين عادوا إلى الشوارع، مؤكدين " السماح في المحكمة."

وكانت عملية المساءلة الجنائية قد بدأت في وقت مبكر من عام 2011، مع القضايا المتعلقة بشهداء ومصابي الثورة أمام المحاكم العسكرية، بطيئة في تحقيق المكاسب. واُنتقدت هذه المحاكم بشدة لافتقارها إلى الاستقلالية، وفي بعض الحالات، لتقديمها أحكام مخففة للجناة الذين أدينوا بارتكاب جرائم جسيمة، وهو ما سبب الغضب واليأس لدى الضحايا وأسرهم.

في العام الماضي، تم تعديل قانون العدالة الانتقالية لمنح الدوائر المتخصصة - هيئة قضائية خاصة للتعامل مع جرائم الماضي - اختصاص النظر في قضايا شهداء ومصابي الثورة، بالإضافة إلى التحقيق والفصل في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال فترة الدكتاتورية. بيد أن هذه المحاكم لا تزال موجودة على الورق فقط. إن عدم الرغبة في إنشاء هذه الدوائر المتخصصة، على الرغم من أحكام القانون، يعكس ضعف الإرادة السياسية لمعالجة إرث الماضي.

ولقد تم إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة في تونس لتوجيه عملية البحث الوطنية عن الحقيقة. فبعد ما يقرب من 60 عاماً من الحكم الاستبدادي، فإنه ليس من المستغرب أن يطالب الناس بإجابات لأسئلة مثل ماذا حصل، ولمن وعلى يد من، ولماذا. وبالفعل، تلقت اللجنة أكثر من 15000 شكوى من الضحايا. هذا المستوى المرتفع من الاستجابة يدل على أن الجمهور لديه توقعات عالية حول الهيئة وأن الضحايا مؤمنون بعملية البحث عن الحقيقة.
"بعد ما يقرب من 60 عاماً من الحكم الاستبدادي، فإنه ليس من المستغرب أن يطالب الناس بإجابات"
   

ومع ذلك، تواجه الهيئة مشكلة متنامية حول مصداقيتها والغرض منها. فقد جرت عملية اختيار أعضائها 15 الأوائل - واستبدال عضو - بطريقة حصرية وغير شفافة. فشل المجلس الوطني التأسيسي، والمكلف بتسمية الأعضاء، في تقدير الدور المهم للمجتمع العام والمدني في تحديد ومراجعة المرشحين. وقد أدى ذلك إلى لجنة حقيقة تفتقر إلى القبول العام ودعم المجتمع المدني.

وأبرزت الحكومة الجديدة بشكل متزايد أن السعي لكشف الحقيقة والمساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم الاقتصادية المرتكبة في ظل الأنظمة السابقة ليست ضمن أولوياتها، وإعطائها بدلاً للإجراءات الأمنية في أعقاب الهجمات الإرهابية الأخيرة. ولكن منطق "الحرب على الإرهاب" والاستغلال السياسي للوضع الاقتصادي المتدهور للضغط من أجل إصدار عفو عن الموظفين الحكوميين السابقين ورجال الأعمال الفاسدين لن يؤدي إلا إلى اضعاف العملية الانتقالية برمتها.

يجب أن يكون أصحاب المصلحة على الصعيدين الوطني والدولي حازمين في توجيه رسالة مفادها أن هذه المعضلات, بين الأمن و المسائلة, الزائفة يمكن دحضها بسهولة إن وجدت إرادة سياسية لتنفيذ قانون العدالة الانتقالية بالكامل. إن الجهود لمواجهة والتغلب على الماضي لهي جوهرية من أجل بناء ديمقراطية متينة واستقرار طويل الأمد. أما التخلي عن الطريق نحو الحقيقة والعدالة سيعزز فقط الإفلات من العقاب واستمرار الفساد، وسيقوض الجهود الجارية لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة.

إن كان هناك أي بوادر أمل، فهو أن الجدل الحالي حول مشروع قانون "المصالحة الاقتصادية" المقترح قد أحيا طاقة المجتمع المدني ومجموعات الضحايا، والذين عزز موقعهم حصول اللجنة الرباعية على جائزة نوبل للسلام، للدفاع عن العملية وعن هيئة الحقيقة والكرامة (بغض النظر عن مشاكلها الداخلية) باعتبارها فرصة تاريخية لكشف الحقيقة لا يجوز تبديدها. التزامهم المتجدد هذا برؤية العملية تتقدم يعني أن مطلب العدالة لا يزال قوياً في تونس، وأن الحلم الذي أشعلته الثورة بمجتمع يحترم سيادة القانون ويعامل جميع المواطنين على قدم المساواة.


ريم القنطري ، مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية بتونس

نشرت هذه المقالة في OpenDemocracy.

الصورة: متظاهر يحمل لافتة كتب عليها: " مساءلة، محاسبة ثم مصالحة" في مظاهرة ضد مشروع قانون المصالحة المقترح. العاصمة تونس، سبتمبر، 2015. (AP Photo/Riadh Dridi)