هل بوسع العدالة الدولية أن تعزز المصالحة؟

12/04/2013

الصورة: امرأة بوسنية مسلمة، رامزة غورديتش، 59، وهى إحدى الناجين من مذبحة سبرينيتشا تغض بنظرها عن شاشة التلفزيون التي تبث مباشرةً اليوم الأول من محاكمة قائد الجيش السابق لصرب البوسنة راتكو ملاديتش أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة في لاهاي. ألفيس باروكشيش/ أ ف ب/ GettyImages.


بقلم ديفيد تولبرت

ستعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 نيسان/أبريل حواراً موضوعاتياً حول دور العدالة الدولية في عمليات المصالحة. وكان رئيس الجمعية العامة، فوك يريميتش وهو من صربيا، قد دعا لهذا الحوار في أعقاب الحكم الذي أصدرته مؤخراً المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بتبرئة الجنرال الكرواتي آنتي جوتوفينا. وللأسف، أصبح واضحاً أن الغرض الحقيقي لهذا الحوار موجه لتقويض المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، بدلاً من مناقشة قضية مهمة، ليس فقط في منطقة البلقان، بل في عددٍ متنامٍ من البلدان.

تُبيّن التجربة أنه من خلال إخضاع المسؤولين عن الجرائم الخطيرة للمحاسبة، فإن عمليات العدالة الجنائية تُظهر أن لا أحد فوق القانون، كما أنها تمثل انقطاعاً عن الإساءات الماضية والجرائم الفظيعة. وقد أظهرت عدة مجتمعات من خلال الملاحقات القضائية أنه يجب أخذ حقوق الإنسان بجدية وأنه بوسع الضحايا أن يشعروا فعلاً بأنهم محميون.

إلا أنه تم إضفاء نوع من الغموض على العلاقة بين آليات العدالة الجنائية، مثل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، وبين المصالحة وذلك جراء المناقشات الفضفاضة التي انهمك فيها مسؤولو المحكمة وأشخاص آخرون. أما المزاعم بأن بوسع هذه المؤسسات القضائية المساهمة بطريقة غير واضحة المعالم في المصالحة، فلم تكن دائماً مستندة إلى فهم واضح للعدالة الجنائية، كما أنها لا تستند إلى أساس معياري.

"فكيف يمكن لمحكمة أن تعمل كوسيلة لتحقيق المصالحة في حين أنها تأسست بينما كان النزاع الفتّاك بين الجماعات الإثنية على أشده"
    وفي حين حدد مجلس الأمن الدولي ضمن ولاية المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة مهمة "المساهمة في إقامة سلام دائم والمحافظة عليه" في يوغوسلافيا السابقة، إلا أنه لم يحدد أبداً كيفية تحقيق ذلك. فكيف يمكن لمحكمة أن تعمل كوسيلة لتحقيق المصالحة في حين أنها تأسست بينما كان النزاع الفتّاك بين الجماعات الإثنية على أشده (والذي لم تكن أسوأ فظائعه قد حدثت بعد، بما في ذلك مذبحة سبرينيتشا)؟

وعلى نحو مماثل من الأهمية، ماذا كان تصور مجلس الأمن الدولي بشأن المصالحة؟ هذه الأسئلة تستحق معاينة جادة، إذ أننا شهدنا توقعات شبيهة منتظرة من محاكم دولية أخرى، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية؟

إن المصالحة تعني أشياء مختلفة للأشخاص المختلفين. ففي أمريكا اللاتينية، جرت مساعي لضمان المحاسبة على الإساءات الهائلة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الدكتاتوريات العسكرية اليمينية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إلا أنها أثارات حفيظة العديد من منظمات المجتمع المدني التي اعتبرت كلمة ’المصالحة‘ بأنها مجرد غطاء للإفلات من العقاب ونسيان الماضي، إذ تضع عبء المسامحة على الضحايا في حين تتيح للقتلة وممارسي التعذيب أن يتجنبوا المثول أمام العدالة.

اعتمدت جنوب أفريقيا نهجاً مختلفاً في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي، فقد عملت لجنة الحقيقة والمصالحة، تحت رئاسة دزموند توتو، على تشجيع فضائل المسامحة والمصالحة، وليس فقط على أساس عملي، وإنما على أساس أنها تعكس قيماً ذات أهمية خاصة في أفريقيا.

إضافة إلى أهمية إدراك أن المصالحة تُفهم على نحو مختلف من قبل الناس المختلفين، يجب أن ندرك أيضاً أنه من غير المعقول التفكير بأن المصالحة يمكن أن تعني الشيء ذاته في سياق الحرب بين الدول وفي أوقات العنف المباشر بين المجتمعات المحلية التي تمزقها الحرب الأهلية أو القمع.

إن أقوى مثال لدينا حالياً للمصالحة بين الدول هو بالتأكيد المصالحة بين فرنسا وألمانيا. من السهل أن ننسى أن هذين البلدين كانا عدوين لدودين وأن فرنسا عانت بصفة خاصة من الإذلال في ثلاثة حروب على امتداد ثلاثة أرباع قرن. فكيف تحققت المصالحة بينهما؟ لقد كانت المصالحة ممكنة، جزئياً على الأقل، لأن القيادة الألمانية كانت قادرة على الاعتراف بأخطائها والالتزام بتحقيق إصلاح جذري في علاقة ألمانيا مع الدولة الفرنسية. فقد كان الأمر إقراراً صادقاً بالمسؤولية. كما أن فرنسا، وعلى الرغم من الألم والمرارة التي كانت تشعر بهما، رأت أنه لا بد من إيجاد مسار جديد.    
"وفي الواقع، فإن العديد من كبار السياسيين الصربيين، بمن فيهم الرئيس الصربي الحالي توميسلاف نيكوليتش، معروفون برفضهم الإقرار بأن الصرب في البوسنة ارتكبوا إبادة جماعية في سبرينيتشا"

لم تحدث مثل هذه العملية أبداً في يوغوسلافيا السابقة، على الرغم من بعض الاعتذارات الشكلية التي قدمها رؤساء دول سابقون. وفي الواقع، فإن العديد من كبار السياسيين الصربيين، بمن فيهم الرئيس الصربي الحالي توميسلاف نيكوليتش، معروفون برفضهم الإقرار بأن الصرب في البوسنة ارتكبوا إبادة جماعية في سبرينيتشا. لقد حددت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة حقائق ما جرى بشأن الإبادة الجماعية في سبرينيتشا، كما أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً بشأنها، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتحفيز إقرار من قبل صربيا كالذي قدمته ألمانيا إلى فرنسا.

قد لا يكون هذا المثال حتى ذا صلة بوضع يوغوسلافيا، حيث انقسمت دولة موحدة سابقاً إلى دول مستقلة. وبعد النزاعات التي نعتبر أنها ناجمة عن حروب أهلية وأنظمة قمعية، ينبغي أن يكون فهمنا للمصالحة أكثر واقعية. إن القمع والشقاق الداخلي يؤديان إلى تمزيق العقد الاجتماعي. ويصبح ما يعتقد المواطنون بأنه من حقهم توقعه من بعضهم ومن مؤسساتهم الحكومية أمراً لا قيمة له، إذ تؤدي الإساءات والفظائع إلى تمزيق الأساس الذي تستند إليه الثقة. وفي هذه الظروف، والتي اختبرتها عن قرب المجتمعات المحلية التي كانت متلاحمة سابقاً في البوسنة والهرسك، على سبيل المثال، ينبغي للمصالحة أن تركز على ما يجب القيام به من أجل استعادة ثقة المواطنين ببعضهم، وكذلك وقد يكون هذا أكثر أهمية استعادة الثقة بالدولة نفسها.

يجب أن تُكتسب هذه الثقة، ولا يمكن أن تقام على الإنكار، كما لا يمكن أن تستند إلى علاقات القوة. ويجب أن تراعي بجدية كرامة الأطراف المعنية. إن الإقرار بحقيقة ما حدث هو أمر حاسم الأهمية، وكذلك تحقيق درجة ما من العدالة. ولا يمكننا جدياً أن نتوقع من الناس، وخصوصاً الضحايا، أن يثقوا بأن حقوقهم ستُحترم في ظل نظام جديد عندما لا يروا جهوداً تُبذل للإقرار بما جرى لهم في أعقاب أشد الإساءات فظاعةً.

"يمكن اعتبار سجل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بأنه مدهش من حيث عدد الأشخاص الذين وجهت المحكمة اتهامات ضدهم، بالمقارنة مع محاكم دولية أخرى. . ولكن من ناحية أخرى، ظلت مساهمتها في عملية المصالحة في المنطقة محدودة بشدة."
    هل بوسع المحاكم الوطنية المحايدة المساعدة في استعادة هذه الثقة عبر إظهار أن الدولة ستنظر بجدية في جرائم الماضي؟ ربما. هل يمكننا أن نتوقع من المحاكم الدولية أن تقوم بالمهمة ذاتها من تلقاء نفسها من خلال إجراء محاكمات طويلة ومعقدة، والتي عادة ما تكون بعيدة عن واقع الجماهير المستهدفة التي من المرجح أنها ما تزال تعاني من الأسباب الجذرية للعنف؟ إن احتمالية ذلك أقل بكثير.
لا شك أن عمليات العدالة الجنائية مهمة، ولكن هدفها الأساسي هو إجراء محاكمات عادلة بشأن أوضاع تتسم عادة بوقائع وهياكل قيادة شديدة التعقيد.

ويجب علينا أن نأخذ جانب الحذر من تكليفها بأهداف مرتبطة بمفاهيم معقدة وخلافية مثل مفهوم المصالحة، ومن توقُّع أن عدداً محدوداً من المحاكمات في لاهاي ستتمكن بطريقة ما من حلّ جميع مشاكل المجتمعات الخارجة من نزاعات. ومن هذا المنظور، فإن الحوار في الجمعية العامة للأمم المتحدة هو حوار في غير محله على الإطلاق.

يمكن اعتبار سجل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بأنه مدهش من حيث عدد الأشخاص الذين وجهت المحكمة اتهامات ضدهم، بالمقارنة مع محاكم دولية أخرى؛ وحقيقة أنه تم القبض على جميع المطلوبين وتقديمهم للمحاكمة؛ وأن المحكمة جلبت للعدالة بعض أكبر المسؤولين عن ارتكاب الفظائع في يوغسلافيا السابقة. ولكن من ناحية أخرى، ظلت مساهمتها في عملية المصالحة في المنطقة محدودة بشدة. وإذا ما سعينا لمعرفة أسباب ذلك، فقد يتعين علينا الإقرار بأن المحاكم الدولية قد لا تكون مؤهلة للإيفاء بمثل هذه التوقعات – وأنه، كما في حالة المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، أحياناً لا توجد ببساطة أي عملية مصالحة قائمة بوسع المحاكم الدولية أن تساهم فيها.


ديفيد تولبرت هو رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية. شغل تولبرت منصب مساعد كبير المدّعين للمحكمة الجنائيّة الدوليّة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة. وكان أيضاً رئيس قلم المحكمة الخاصّة بلبنان وعمل قبل ذلك مساعدًا للأمين العام للأمم المتحّدة ومستشاراً خاصاً لديه للقضايا المتصلة بمساعدة الأمم المتحدة في محاكمة الخمير الحمر.