في 4 آب/أغسطس من العام 2020، شهدت بيروت انفجارًا يُعَدّ واحدًا من أكبر الانفجارات غير النووية التي عرفها التاريخ؛ جريمةٌ حصدت ما يزيد على 200 قتيل و6,500 جريحٍ ومعوّق، وألحقت دمارًا أو ضررًا بحوالى 300,000 مبنى. وبعد مرور عامٍ على هذه الجريمة، لا يزال اللبنانيون في حالةٍ من الغضب العارم نتيجة الانفجار المروّع وإهمال السلطة ووعودها الزائفة في شأن الكشف عن الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب في سبيلِ إحقاقِ العدالة. فاللبنانيون قد فقدوا ثقتهم بالسلطة القضائية غير الفعّالة في بلدهم، وهذا ما زاد إصرارهم على المطالبة بإجراءِ تحقيقٍ في الانفجارعلى أن يكون موثوقًا ونزيهًا ومستقلًا.
"أودّ الاحتجاج على ردّة فعل الحكومة إثرَ وقوع الانفجار في 4 آب/أغسطس وعمليات الخطف وفقدان أشخاص خلال الحرب اللبنانية وكذلكَ على جرائم أخرى أوقعت آلاف الضحايا من دون محاسبة المرتكبين ومن دون الكشف عن الحقيقة، وأنا أسعى إلى إنصاف عائلات الضحايا قدر الإمكان". هذا ما أدلى به طالبٌ لبناني في مجال الحقوق خلال ورشة العمل الأخيرة التي نظّمها المركز الدولي للعدالة الانتقالية وحضرها طلّابٌ جامعيون في لبنان.
في إطار الدّعم المستمر الّذي يُقدّمه المركز الدّولي للعدالة الانتقالية للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، نظّم المركز ورشة عمل حول العدالة الانتقالية موجّهة إلى الطلّاب الجامعيين، وذلك على مدى ثلاثة أيام من 12 إلى 14 تموز/يوليو 2021. وقد عمل جميع الطلاب المشاركين في هذه الورشة كمتطوّعين لدى اللجنة آنفة الذكر في مشروعها الهادف إلى مأسسة الأرشيف الذي يوثّق نضالها ونشاطاتها طيلة العقود الأربعة الماضية. هذا وقد سبق أن شارك هؤلاء الطّلاب في ورشة عمل في شباط/فبراير 2020 تعرّفوا فيها إلى مفاهيم العدالة الانتقالية.
وقد تولّى خبراء من المركز الدولي للعدالة الانتقالية تيسير أعمال الورشة باستخدام تمارين عملية وتجارب مقارنة مأخوذة من سياقات أخرى، وذلكَ بغيةَ مساعدة المشاركين على الإحاطة بمفاهيم العدالة الانتقالية وتوعيتهم على الدور المهمّ الذي يمكن أن يضطلع به الشباب في تشجيع المجتمع على استيعاب ماضيه. وقد رحّبت السيدة آنا ميريام روكاتيللو، نائب المدير التنفيذي ومديرة البرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بالمشاركين في ورشة العمل وشجّعتهم على اغتنام كل فرصة سانحة من أجل إحقاق العدالة للضحايا ولكل من تضرّر مِن الحرب الأهلية في لبنان.
وقدّمت السيدة وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، للمشاركين لمحةً عامة عن الهيئة الوطنية التي أُنشئَت في لبنان بموجبِ قانون المفقودين والمخفيين قسرًا (105/2018). وأوضحت السّيدة حلواني أنّ الهيئة تضمّ 10 أعضاء وقد كُلِّفَت التحقيق في مصير المفقودين والمخفيين قسرًا بهدف الكشف عن أماكن تواجدهم، وتقفّي أثر الرفات البشرية وتسليمها إلى عائلات الضحايا. وقد حذّرت السيدة حلواني مِن "التحدي الأكبر الذي يواجه الهيئة ويكمنُ في الحفاظ على استقلاليتها وحمايتها من التدخلات السياسية". وشدّدت السّيدة حلواني أيضًا على أهمية تنفيذ عمليات العدالة الانتقالية في لبنان، مضيفةً: "لو نُفّذتْ هذه العمليات بعد انتهاء الحرب لكانت قضية المفقودين قد حُلّتْ ولما كان لبنان يشهد ما نشهده اليوم من انهيار وأزمات على كافة الأصعدة".
وفي الجلسة الثانية، استعرضت كلٌّ من مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان، السيدة نور البجاني نور الدين، وخبيرة البرامج في المركز، السيدة إيلينا نوتون، آليات المحاسبة في لبنان والتحديات التي تواجهها. وأكدت السيدة البجاني أنّ العدالة لا يمكن أن تتحقق من خلال محاكمات جنائية فحسب، بل إنّها تتطلب أيضًا إقرارًا بالانتهاكات الماضية وبالضرر الذي لحق بالضحايا، كما تتطلّبُ اعتماد آليةٍ مُجدية لجبر الضرر، والبحث عن الحقيقة، وإجراء إصلاحٍ مؤسساتي. وأضافت السيدة البجاني "إنّ القاسم المشترك بين ضحايا الحرب اللبنانية، وضحايا الاغتيالات السياسية والنزاعات الطائفية التي وقعت بعد انتهاء الحرب الأهلية، وضحايا الفساد، وضحايا انفجار 4 آب/أغسطس هو ثقافة الإفلات من العقاب السائدة في البلد".
وعرضَت السيدة نوتون العملية التي تُمكِّن المجتمعات التي تصارع إرثَ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من تحقيق المحاسبة. ولهذه الغاية، استعانت السّيدة نوتون بأمثلةٍ ذات الصلة مُستقاةٍ من سياقات مختلفة حول العالم، وأردفت قائلةً: "إنَّ المحاسبة الجنائية الدولية تمثّلُ ركنًا أساسيًا من أركان العدالة الانتقالية تمامًا مثل الحقيقة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار. وهي كلّها تساعد المجتمعات على الاعتراف بأخطائها ومواجهة عواقب النزاع والعنف السياسي وقمع الدولة. فهذا هو السبيل الوحيد الّذي يضمن أن يجدَ المجتمع حلولًا ممكنة وأن يركّز على تنفيذها بالشكل الملائم من أجل إحقاق العدالة."
ثم شرحت السيدة نوتون، تفصيلًا، مختلف أنواع الآليات التي تتيح المحاسبة مثل المحكمة الجنائية الدولية، والآليات الدولية والمحلية المختلطة (كالمحكمة الخاصة بلبنان)، والمحاكم الوطنية ولجان التحقيق، وتطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية. وقد ناقشت السيدة نوتون حسنات كلٍّ من هذه الآليات وسيئاتها، مُبيّنةً ذلكَ، من خلالِ أمثلةٍ توضيحيّة مُستقاةٍ من بلدانٍ أخرى.
واطّلع المشاركون في الورشة على معلوماتٍ تحثّهم على التفكير بكيفية إصلاح السلطة القضائية في لبنان والنّأيِ بها عن التدخلات السياسية وتنفيذ سُبل المحاسبة المُجدية. وأجمعَ المشاركون على أنَّ لبنان يُخفقُ دومًا في المحاسبة على المُستوى الرّسمي، واعتبروا أنّ أهل السلطة يتحمّلون الجزء الأكبر من المسؤولية ويُلامون على رفض الاعتراف بالفساد المستشري وبالأزمة الاقتصادية المستفحلة في البلد كما يُلامُونَ على تقاذف الاتهامات في شأنها.
وافتتحت السيدة ناديا جمل، مسؤولة البرامج في مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس جلسة عن الفنون والأساليب المُبدِعة في سرد القصص، فبيّنَت مدى مساهمة ذلك في تحقيق العدالة الانتقالية. وقدّمت السّيدة جمل عرضًا عن مشروع "أصوات الذاكرة" الذي نفّذه المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس، وهو عبارة عن معرضٍ فني تفاعلي يسلّط الضوء على ما تواجهه النساء من قمعٍ في البلد. ثم استعرضت السّيدة جمل مشاريعَ أخرى تتمحورُ حولَ الحفاظ على الذاكرة الجماعية من خلال الفنون وسرد القصص وينفّذها المركز لحث الشباب التونسي على المساهمة فيها على نحوٍ تشاركي. ودعت السّيدة جمل المشاركين إلى التفكير في كيفية إطلاق حوارٍ بنّاء بين المواطنين العاديين حولَ انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدها لبنان في الماضي من دون إثقال كاهل الضحايا المباشرين. وبعد اختتام هذه الجلسة، صرّحَ أحد المشاركين قائلًا: "لقد فهمْتُ من منظارٍ آخر بعضَ الأمور المتعلقة بوسائل التوعية على العدالة الانتقالية أو سُبلها".
وقدّم السيد فراس بوزين الدين، مسؤول قسم التواصل العربي في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، جلسةً عن استراتيجيات التواصل، عَرضَ فيها العناصر الرئيسة للاستراتيجية الناجحة. وشدّد على أهمية التواصل الفعّال، مستعرضًا أيضًا المخاطر الناجمة من سوء التواصل أو ضعفه. ثمّ ختم السّيد بوزين الدين الجلسة بتمرينٍ عملي وضع فيه المشاركون استراتيجيات تواصلٍ من شأنها الإعلان عن مشروع أرشيف لجنة الأهالي، وتعريف النّاس بالهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، وتشجيعهم على دعمها.
وفي الجلسة الأخيرة من ورشة العمل، التي قدّمتها السيدة سيبلي هوكنز، خبيرة البرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، عقد المشاركون مؤتمرًا صحفيًا افتراضيًا، اتّخذوا فيه أدوار شخصيات مختلفة مثل دور الضحية، والشاب أو الشابة الناشطة، والناشط أو الناشطة في سبيل حقوق المرأة، وممثل أو ممثلة الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، والصحافي أو الصحافية. وفي هذه المحاكاة، طرح الطالب الذي يؤدي دور الصحافي على الآخرين، كلٍّ حسبَ دوره، أسئلةً عن الهيئة وعملها والتحديات التي تواجهها وما يُتوقّعُ منها إنجازه في السنوات الخمس المقبلة. وقد علّقت السّيدة هوكنز على هذه الجلسة، قائلةً: "كان من المُلْهم أن نرى الطلاب يتكيّفون مع أدوارهم المحدّدة لهم، ويتّبعون النُهُج الخاصة بهم، ويعرضون أفكارًا مبتكرة حول ما يتعيّن فعلُه من أجلِ إشراك العدد الأكبر من أقرانهم وغيرهم من الأشخاص الذين عادةً ما يُستبعدون من حلقات الحوار المتعلقة بالعدالة وبالماضي. وكان من المؤثّر أن نرى كيف عَكَست مداخلاتُ الطّلاب أهمية عمل الهيئة المعنوية والرّمزية على حدٍّ سواء".
وفي مختلف جلسات الورشة، أبدى المشاركون حماسَهم للانخراط في عمليات العدالة الانتقالية في لبنان، والتوعية حولَ الماضي العنيف للبلد، والمساعدة في الكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرًا. وأبدَى أحد الطلاب رأيه، قائلًا: "كان التدريب مثمرًا، وتعرّفتُ من خلاله إلى أنشطة المركز الدولي للعدالة الانتقالية وإلى دور المجتمع المدني في معالجة ماضي البلد وقضايا حقوق الإنسان".
الصورة: مواطن لبناني يحمل علمين لبلده أمام مرفأ بيروت المدمر بعد انفجار 4 آب / أغسطس، حداداً على ضحايا المأساة. (نبيل إسماعيل ، مصور صحفي ، لبنان)