توخياً لمزيد من الوضوح: التحدي الماثل أمام المحكمة الجنائية الدولية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

09/06/2011

بقلم حبيب نصار

تبدو المحكمة الجنائية الدولية وكأنها بحاجة لأن تفصح بصورة أفضل مما فعلت حتى الآن عن الأسباب والدوافع الكامنة وراء أفعالها حتى تتضح في أذهان عامة الجمهور في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل وفي سائر أنحاء العالم، إن كانت حريصة على بث الثقة في قدرتها على القيام بدور حامية القانون الجنائي الدولي. ذلك أن التطورات التي تمت بصلة لرسالة المحكمة الجنائية الدولية والهدف من نشوئها ما برحت تتلاحق وتتصاعد يوماً بعد يوم: من دورها المباشر في ليبيا إلى دورها المحتمل في إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة؛ ومن الجرائم المرتكبة في سوريا واليمن والبحرين، التي قد تنضوي في نهاية المطاف تحت اختصاصها القضائي، إلى مصادقة تونس ومصر الوشيكة على نظامها الأساسي.

وتواجه المحاكم الدولية تحديات جسيمة في سعيها لإشاعة شعور في أوساط المجتمعات المعنية بعملها بأن هذه المجتمعات تملك القضايا المنظورة أمامها؛ ويرجع ذلك إلى عوامل كثيرة من بينها البعد (سواء المكاني أم الثقافي)، واستخدام لغة وقواعد كثيراً ما تكون غير مألوفة للسكان المشمولين باختصاصها؛ والأهم من هذا وذاك هو الخطاب العدائي الذي كثيراً ما يجنح إليه بعض المحللين والمفكرين المحليين. وليست المحكمة الجنائية الدولية بمنأى عن هذه التحديات، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث يستدعي دورها جهداً قوياً للتواصل مع الجمهور، وإيضاح رسالتها وأهدافها.

وفي 16 مايو/أيار، أعلن المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو أنه قدم طلباً لاستصدار أوامر بالقبض على العقيد معمر القذافي، وابنه سيف الإسلام، ورئيس جهاز المخابرات عبد الله السنوسي، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم تتعلق بالهجمات التي شنتها قوات الأمن التابعة للقذافي على المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع احتجاجاً على نظامه منذ فبراير/شباط الماضي.

وأوضح مورينو أوكامبو أن ما في حوزته من أدلة "يظهر أن المدنيين تعرضوا لهجمات في منازلهم؛ وقمعت المظاهرات باستخدام الذخيرة الحية، واستخدمت المدفعية الثقيلة ضد المشاركين في تشييع الجنائز، واتخذ القناصة مواقعهم لقتل الخارجين من المساجد بعد الصلاة."

ولئن كان هذا الإجراء الذي اتخذه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد قوبل بترحيب كبير من جانب كل من ينادون بمحاسبة الزعماء الذين يقمعون مواطنيهم باستخدام أساليب العنف، فقد ثارت أسئلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفيما وراءها، حول المعايير التي تحدد القضايا التي تتصدى لها المحكمة؛ وكانت ردود فعل قطاعات واسعة من الجمهور في المنطقة، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني التي تسعى لتعزيز سيادة القانون، وتؤيد دور المحكمة الجنائية الدولية بقوة – كانت تنطوي على تساؤل حول أوجه الاختلاف بين سلوك القذافي في ليبيا وسلوك الأسد في سوريا، أو سلوك صالح في اليمن، أو سلوك آل خليفة في البحرين.

والجواب المباشر على هذا التساؤل هو أن ملف ليبيا قد أحيل إلى المحكمة الجنائية الدولية من جانب مجلس الأمن الدولي؛ فهذه الإحالة هي إحدى الأليات التي تؤدي إلى تفعيل اختصاص المحكمة على نحو لم يحدث حتى الآن في حالة اليمن أو سوريا أو البحرين. فليس بمقدور المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها إلا إذ كانت الدولة التي وقعت فيها الجرائم، أو التي ينتمي إليها الجناة، تقبل هذا الاختصاص؛ أو إذا قرر مجلس الأمن الدولي إحالة قضية ما إلى المحكمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بغية صون أو استعادة السلم والأمن الدوليين. وليست اليمن وسوريا والبحرين من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، ومن الصعب أن نتصور حرص الزعماء الحاليين لهذه الدول الثلاث على قبول اختصاص المحكمة.

ولا تستطيع المحكمة التحكم فيما يحيله إليها مجلس الأمن من قضايا، ولكن بمقدورها فقط أن تقرر ما إذا كان هناك سبب معقول لفتح تحقيق في الأمر إذا ما أحيلت إليها قضية ما. بيد أن هذا لا يعني أن قرارات الإحالة من مجلس الأمن تكون مجردة من الاعتبارات السياسية. وسرعة تحرك مجلس الأمن لإصدار قرار بإحالة ملف ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وصمتها الذي يصم الآذان بشأن أعمال عنف مماثلة تمارس ضد المدنيين في أنحاء أخرى من الشرق الأوسط، ولا سيما في سوريا واليمن، قد تخلق انطباعاً مؤداه أن القوى المهيمنة على المجلس لا تلجأ إلى المحكمة إلا عندما يخدم ذلك مصالحها السياسية.

وإذا أضفنا إلى هذا كله غياب أي استجابة من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للخطوة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية في يناير/كانون الثاني 2009 إذ أعلنت اعترافها باختصاص المحكمة – وهي خطوة تهدف إلى تمكين المحكمة من التحقيق في انتهاكات القانون الدولي التي زُعم وقوعها إبان الصراع في غزة وجنوب إسرائيل على مدى 22 يوماً عامي 2008 و2009 – يسهل علينا أن نرى الخطر الذي يهدد بتقويض مصداقية المحكمة في المنطقة، واتهامها بالكيل بمكيالين. ولا يمكن للمحكمة أن تسمح لمثل هذه الانطباعات بالرسوخ والتجذر، بل يجدر بها القيام بجهد نشيط من أجل تفنيدها وتبديدها.

والمؤتمر الذي عقد في قطر مؤخراً حول المحكمة الجنائية الدولية، وما نجم عنه من تسليط الضوء على المحكمة في وسائل الإعلام الإقليمية، يمكن اعتباره بمثابة خطوة إيجابية، ولكن المحكمة لا تزال بحاجة لمزيد من التحاور والتفاعل على نحو أعمق وأكثر تنوعاً حتى يتسنى لها تحقيق القدر المرغوب من الفهم والقبول.

ويتعين على المحكمة الجنائية الدولية السعي بنشاط لإرساء وجود إعلامي قوي لها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بهدف التواصل الجماهيري وبث معلومات وافية عن اختصاصها، والعمل مع وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني التي يمكنها المشاركة في بثها وإيصالها للجمهور. ولا بد من توسيع وجودها على شبكة الإنترنت ليشمل المنطقة، وإدراج اللغة العربية ضمن اللغات المستخدمة على الموقع الإلكتروني للمحكمة؛ ولكن المحكمة بحاجة للتحاور والتفاعل، وليس مجرد الاقتصار على تقديم تفسيرات وتوضيحات لنظام روما الأساسي، وتوزيعها في ملخصات ووثائق.

وقبل انعقاد مؤتمر الدوحة، لم يقم المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو، ولا غيره من كبار المسؤولين في المحكمة، بزيارة المنطقة إلا نادراً؛ وقد حان الوقت لأن يفعلوا ذلك بصفة منتظمة لإظهار أهمية المحكمة بالنسبة للأحداث الجارية في المنطقة، وتوجيه رسائل واضحة بشأن تفويضها مما يسهم في تبديد ادعاءات التحيز أو التسييس.

ومن الخطوات الإيجابية أيضاً إشراك شخصيات قانونية وسياسية مرموقة، سواء من المنطقة أم من مناطق أخرى، من أمثال الرئيس السابق للمحكمة الجنائية الدولية فيليبي كيرش أو القاضي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة محمد أمين المهدي، فمبقدور هؤلاء التحدث عن المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم التحليلات بدون القيود التي يلتزم بها موظفو المحكمة.

ومهما قلنا فلن نبالغ في التأكيد على أهمية دور المجتمع المدني في هذا المسعى؛ ودعماً للعمل الذي يقوم به التحالف من أجل المحكمة الجنائية الدولية، وهو التحالف الذي شارك المنظمات غير الحكومية المحلية في الدعوة للمصادقة على نظام روما الأساسي، يتعين على المحكمة الجنائية الدولية ذاتها إقامة روابط قوية مع منظمات المجتمع المدني التي سوف تنهض بمهمة التوعية برسالة المحكمة وأهدافها، وتسهم في تصحيح وتفنيد المفاهيم والانطباعات الخاطئة عنها، كل في وسطها الخاص بها.

لقد ارتفعت الأصوات المطالبة بالعدالة والمساءلة في تونس ومصر، وفي شتى أنحاء المنطقة؛ ومن المؤشرات التي تستوقف الانتباه أن أحد القرارات الأولى للحكومة المؤقتة في تونس هو الشروع في إجراءات المصادقة على نظام روما الأساسي، وأن السلطات المؤقتة في مصر أعلنت هي الأخرى عن نيتها القيام بذلك.

إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية حريصة على كسب ثقة الجماهير المطالبة بالعدالة في المنطقة وفي مختلف أنحاء العالم، وراغبة في توجيه رسالة مدوية مفادها أن مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية لن يكونوا بمنجاة من المساءلة والعقاب، فلا بد لها أن توضح للجماهير الأسباب التي تدفعها للتحرك في حالة دون أخرى؛ كما أن من واجبها أن تفصح للجمهور الذي تريد مخاطبته عن العوامل الكامنة وراء هذه القرارات الأساسية، وتبين له أين تبدأ سلطتها وأين تنتهي. وذلك من شأنه أن يعزز مصداقيتها إلى حد كبير في أعين جماهير المنطقة، ويضفي مزيداً من الوضوح على الجدل الدائر حولها الذي صار بالفعل ملوثاً بادعاءات التسييس والكيل بمكيالين

حبيب نصار هو مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا في المركز الدولي للعدالة الانتقالية.

تم نشر هذه المقالة في: دايلي ستار الأهرام اونلاين

الصورة: لاجئون سوريون يقفون وراء سياج مخيم للاجئين أقيم في بلدة يايلاداغي في محافظة هاتاي على الحدود التركية (2011). رويترز/عثمان اورسال.