التحول في التعليم: تحول في المستقبل

01/12/2015

بقلم بول سايلس

تكرار العنف في البلدان الخارجة من الصراعات أو الحكم الديكتاتوري يعد خطرًا حقيقيًّا، فالطريقة التي تتعرَّف بها المجتمعات على ماضيها وتتذكره، وتتذكر هذه الفظائع الوحشية الجماعية كيف ولماذا حدثت، يمكن لها أن تُضخِّم هذه المخاطر أو تُقزِّمها.

إن إعادة بناء نظام التعليم في البلاد يمكنه أن يساعد في سد طريق العودة إلى العنف، ويُعزِّز من شرعية المؤسسات الديمقراطية. ولا تعتمد هذه المساهمة على إعادة بناء المدارس فقط، بل على إعادة الأطفال والشباب مرة أخرى إلى النظام التعليمي، وتعزيز قيم التسامح والسلام من خلال المناهج الدراسية. والأهم من ذلك، فإنها تعتمد على حساسية هذه الجهود حيال ذلك الإرث من انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي.

ومع ذلك، فهذه القدرة للتعليم على تحويل المجتمعات التي تتعارك مع إرثها المضطرب من الماضي يُنظَر إليه على أنه تهديد مِن قِبَل مُنظِّري الصراع والقوى الراغبة في تكريس الانقسام، والحفاظ على سيادة "لدينا" الحقيقة أكثر "منهم". في كثير من الأحيان، تتخلى هذه القوى عن جميع المؤسسات الأخرى قبل أن تتخلى عن نظام التعليم.

ولنأخذ مثالًا: البوسنة والهرسك، التي تحتفل بالذكرى السنوية العشرين لاتفاقية دايتون التي جزَّأت تلك البلاد إلى كيانات سياسية مُقسَّمة عِرقيًّا.

نيكولا بوبلاسين، هو عضو معروف من وحدة شبه عسكرية سيئة السمعة من الحزب الراديكالي الصربي خلال حرب البوسنة، عيَّنته البوسنة والهرسك هذه الأيام في مجلس إدارة الدولة للتعليم العالي. وهذا الأمر يعد مؤشرًا على حالة التعليم في بلد تشتد فيه المعركة على سرد الماضي المضطرب على كلتا الساحتين السياسية والأكاديمية؛ حيث يذهب الأطفال إلى المدارس الابتدائية، فيرون كتب التاريخ تصورنا "نحن" شهداء وأبطال، وتصور الآخرين "هم" أوغادًا ومجرمي حرب.

تتجلى ثمرات هذا النهج التعليمي في أوضح صوره في عريضة وقَّعها مؤخرًا مئات الطلاب من كلية حقوق بلغراد (التي يلتحق بها العديد من الطلبة من المناطق الصربية في البوسنة والهرسك)، طلبوا فيها من رئيس الوزراء الصربي ألكسندر فوسيتش عدم حضور ذكرى الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا، بدعوى أن "الإبادة الجماعية هي اختراع لمنع المصالحة"، وأن مثل هذا الفعل سيعد إقرارًا بها، وسيصم جميع الصرب إلى الأبد بـ "الإبادة الجماعية".    
"بالنسبة لمن يرغبون في الحفاظ على الانقسام، وإبقاء الأمل على الاستحواذ على "نصر" ما في المستقبل، فإن السيطرة على السردية وتوظيف المماثلين فكريًّا تبدأ من سن مبكرة."

وأغلب هؤلاء الطلاب لم يكونوا قد وُلِدُوا عندما اندلعت الحرب في البوسنة، ومن ثم فإن عريضتهم تبعث على القلق حول ما تعلموه في المدارس، والأماكن الأخرى، عن الفظائع التي جرت إبَّان الحرب، إذ أنها تشير إلى نزاع ما زال يغلي تحت السطح.

قد نأخذ وقتًا طويلًا إذا أردنا فَهْم السبب وراء تكالب القوى السياسية على فرض سيطرتها على التعليم في مجتمعات ما بعد الحكم القمعي وما بعد النزاعات. وكما يقول شعار التعليم اليسوعي: "أعطني صبيًّا في السابعة وأنا أظهر لك الرجل". فبالنسبة للذين يرغبون في الحفاظ على الانقسام، وإبقاء الأمل على الاستحواذ على "نصر" ما في المستقبل، فإن السيطرة على السردية وتوظيف المماثلين فكريًّا تبدأ من سن مبكرة.

وهنا سؤال يطرح نفسه: ماذا يستطيع أن يفعل التعليم، وماذا عليه أن يفعل في مجتمعات لها ماضٍ سيئ وقمعي؟ ثم تأتي إجابة واحدة بسيطة، ألا وهي: يجب بالطبع ألَّا نتوقع الكثير جدًّا بسرعة كبيرة جدًّا. فالبيئة التعليمية يجب أن تكون المكان الذي يشجع ثقافة احترام الاختلاف، حيث يكون مفهوم التسوية السلمية للاختلافات متأصِّلًا في مفهوم المواطن ذاته، وحيث ينال الأفراد من مختلف الفئات بالتساوي على فوائد التعليم العالي الجودة. وهو بالضرورة عملية طويلة الأجل. فبعد عشرين عامًا على نهاية نظام الفصل العنصري نرى الاحتجاجات الطلابية الأخيرة ضد تكاليف التعليم الجامعي في جنوب أفريقيا، وكيف تظهر أن تلك البلاد لا تزال تتعامل مع مواطنيها دون مساواة تعود جذروها إلى ماضٍ ظالم.

ولكن هناك عدة خطوات قصيرة الأجل يمكن اتخاذها، حيثما كانت هناك مجهودات للاعتراف بالماضي، سواء أكان ذلك من خلال لجان كشف الحقائق، أو جهود العدالة الجنائية. فمن المهم أن تُشكِّل المعلومات حول تلك العمليات ونتائجها جزءًا من تقاسم المعرفة مع الأطفال والشباب. وهذه بداية جيدة، فهي تبدأ في التغلب على ثقافات الإنكار.

تتواجد بالفعل بعض الأمثلة الإيجابية.

المحكمة الخاصة بسيراليون، على سبيل المثال، زارت المدارس الثانوية والجامعات في جميع أرجاء البلد، وتحدثت مع طلابها، لمناقشة محاكماتها، وهو جهد من جهود التوعية التي تقوم بها. كذلك فعلت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. وفي بيرو، فقد كان لـ "لجنة الحقيقة والمصالحة" رؤية ثاقبة تجاه المشاركة منذ البداية مع قطاع التعليم؛ للبحث عن السبل التي يمكن من خلالها دمج عملها ونتائجه في نظام التعليم.
"التغيير الذي ننشده يأتي بالنظر إلى التعليم، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الاستجابة للظلم الماضي، وهذا هو الخطوة المهمة نحو هذا النوع من التغيير الذي قد جعله ممكنًا."
   
وفي كوت ديفوار نظمت مجموعات من الشباب حوارات لرواية الحقيقة على مستوى المجتمع المحلي حول دور الشباب والمدارس في العنف الماضي. هذه الأمثلة من جهود بعض الدول التي كانت تعاني في الماضي ستساعد صغار السن والأجيال القادمة لمعرفة العنف الذي اجترح بلادهم، بالإضافة إلى إساءة استخدام السلطة من قبل القادة السياسيين، والتي أدت إلى قمع منهجي للعديد من الأطراف البريئة

هذا النوع من النهج يمكن له أن يسهم في فكرة إصلاح المناهج الدراسية، ولكن ما يزال بينه وبين تلك المناهج مسافة ما. فالجهود الإصلاحية المبذولة لما يُدرَّس في فصول التاريخ والعلوم الاجتماعية هو موضوع نقاش محفوف بالمصاعب، حتى في إطار وجود حالة من السِّلْم العام.

المناقشة التي جرت مؤخرًا بشأن إصلاح مناهج التاريخ في إنكلترا، والتي تقترح نهجًا أكثر إيجابية إلى ماضيها الإمبراطوري، هو مثال لمدى إمكانية أن تكون مثل هذه القضايا مثيرة للجدل. إن تشكيل تاريخ متفق عليه، وتعليمه في المجتمعات المنقسمة بشدة، من المرجح أن يكون ثمرة لتفاوض اجتماعي وسياسي مُطوَّل، بدلًا من أن يكون نقطة الانطلاق.

الإقرار بالماضي من خلال قول الحقيقة والمحاكمات وإصلاح التعليم لا يضمن وحده تغلب المجتمعات على انقساماتها. ولكن التغيير الذي ننشده يأتي بالنظر إلى التعليم، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الاستجابة لظلم الماضي، كخطوة مهمة لجعل التغيير ممكنًا.


بول سايلس هو نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية. الصورة: الأطفال في مدرسة متنقلة في فريتاون، سيراليون (Jorge Rodriguez/UNMEER).