العدالة الانتقالية سوف تساعد سوريا، ولكنها لن تكون علاجاً سريعاً

21/01/2013

بقلم رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية ديفيد تولبيرت

تمثّل المقترحات التي ظهرت مؤخراً بشأن استخدام العدالة الانتقالية كوسيلة لإرساء الاستقرار في سوريا بعد أن يسقط نظام الأسد في النهاية (بما في ذلك من خلال توفير حوافز لمؤيدي النظام للتخلي عن احتمال ’القتال حتى الموت‘ في دمشق) تطوراً مهماً في الحوار الدائر حول سوريا.

وبوصفي ممن يؤمنون بعمق بأهمية العدالة كأساس للانتعاش والسلام الدائم في أي مجتمع يواجه إرث من الفظائع الجماعية والقمع، مثل سوريا، فأنا أعتبر أن هذه المقترحات تؤكد على أن مفاهيم العدالة الانتقالية ما عادت تُعتبر ببساطة على أنها مفاهيم فلسفية مثالية، وإنما أخذت تشق طريقها بثبات في سياسات صنع السلام.

ولكن يجب علينا أن نتقدم بحذر شديد وأن نتفحّص الشروط المسبقة الضرورية لتطبيق إجراءات العدالة كي تحقق التأثير المطلوب. فما هي مستويات المشاورات والبنية التحتية اللازمة كي تؤدي العدالة دوراً حقيقياً في استعادة الثقة بين الدولة ومواطنيها؟ وما هو المطلوب كي يشعر الضحايا بأن العدالة تعني أكثر من مجرد تحرّك قصير الأمد في لعبة الشطرنج السياسية في حقبة ما بعد الحرب؟

ثمة قول مأثور وصادق بأن جميع السياسات محلية. والأمر نفسه ينطبق على العدالة الانتقالية.

"ثمة قول مأثور وصادق بأن جميع السياسات محلية. والأمر نفسه ينطبق على العدالة الانتقالية."
    لقد كرّس القانون الدولي وعلى نحو قاطع الحق بالحصول على العدالة، والحقيقة، وجبر الضرر، وعدم تكرار الإساءات الخطيرة لحقوق الإنسان. ولكن تحديد كيفية جعل هذه الحقوق واقعاً ملموساً في سوريا يتطلب تفكيراً عميقاً. وإذا ما تم الترويج للعدالة الانتقالية بوصفها طريقاً مختصراً لتحقيق السلام، بدلاً من أن تكون أساساً للمجتمع الجديد الذي يحترم الحقوق، فمن غير المرجح أن يحالفها النجاح.

وإذ تنظر الجماعات السورية والجهات الدولية الفاعلة والتي اجتمعت تحت شعار "أصدقاء سوريا" بهذه المقترحات، فإن من الأهمية بمكان أن يكون واضحاً ما هو المقصود بالعدالة الانتقالية.

تستند العدالة الانتقالية إلى مبدأين متضافرين: أولاً، أنها قائمة على فكرة الاقتناع الجاد بأهمية حقوق الإنسان – فضحايا الإساءات الخطيرة لحقوق الإنسان يمتلكون الحق بالحصول على العدالة؛ وتستند العدالة الانتقالية إلى مبدأ المحاسبة، وهي ليست "عدالة ناعمة" أو بديلاً للعدالة الجنائية.

ثانياً، تركّز العدالة الانتقالية على جعل المحاسبة أمراً واقعاً في الظروف التي تتسم بصعوبة استثنائية. وعندما تقع جرائم كبيرة ويتبعها مطالب متنافسة للحصول على الخدمات وتترافق مع توفر موارد محدودة فإن ذلك يجعل حتى نظام العدالة الذي يقوم بوظائفه بفاعلية غير قادر على التصدي لجميع انتهاكات حقوق الإنسان. فالتحدي هائل في حجمه ويقترن بسياق سياسي معقد، وغالباً ما يكون مصحوباً بتحديات تقنية عسيرة.

أما فكرة أن العدالة الانتقالية تقتضي على نحو ما شكلاً من "العدالة الناعمة" فما زالت تمثل إساءة فهم شائعة، وكانت هذه الفكرة منتشرة على سبيل المثال بين العديد من نشطاء حقوق الإنسان في تونس وفي بلدان أخرى في أعقاب الثورات الأخيرة التي حدثت في المنطقة. ومنذ البداية، رفض أشخاص عديدون الخوض في نقاش حول العدالة الانتقالية على افتراض أنها تدعو إلى إصدار إعفاءات شاملة لمرتكبي الجرائم الشنيعة، وذلك بغية تحقيق المصالحة الوطنية. إن أي شخص يقترح مثل هذه الأفكار لا شك أنه بعيد كل البعد عن مقتضيات القانون الدولي والممارسات الدولية السائدة على امتداد السنوات العشرين الأخيرة.

إن القانون الدولي يحظر إصدار عفو عن مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والتعذيب. علاوة على ذلك، إذا ما قصّرت السلطات الوطنية عن الوفاء بالتزاماتها من خلال التحقيق في مثل هذه الجرائم ومحاكمة مرتكبيها، فيتعين على المحكمة الجنائية الدولية أن تتدخل كي تضمن تحقيق درجة معينة من العدالة.    
"تركّز العدالة الانتقالية على جعل المحاسبة أمراً واقعاً في الظروف التي تتسم بصعوبة استثنائية."

وفي بلد مثل سوريا شهد فظائع مأساوية هائلة – وتقدّر الأمم المتحدة حالياً أن عدد الضحايا وصل إلى نحو 60,000 قتيل – فلا بد من محاسبة أهم المسؤولين عن هذه الجرائم إذا ما أُريد للمجتمع أن يمضي إلى الأمام استناداً إلى سيادة القانون والأمل بإرساء السلام الدائم.

وفي الوقت نفسه، من المهم أن نؤكد على أن المسؤولية الجنائية هي مسؤولية فردية ولا يمكن عزوها إلى مجموعة بأكملها، سواء أكانت مجموعة سياسية أم إثنية، أو استناداً إلى افتراض الجرم بالتبعيّة. وهكذا، ففي وضع شهد تعبئة أغلبية العلويين عبر خشيتهم من التعرض للانتقام بسبب مناصرتهم لحكومة الأسد، فيجب على أي مقترح لإجراءات تتصل بالعدالة الانتقالية أن يعلن على نحو واضح بأنه لن يتم الحكم على المرتكبين استناداً إلى انتمائاتهم السياسية أو الإثنية، ولكن استناداً إلى أدلة موثوقة تقدم إلى محاكم قائمة وفقاً للقانون.

وتتسم هذه الرسالة بأهمية أكبر على ضوء التقارير حول الجرائم التي يرتكبها الجيش السوري الحر. وإذا ما أردنا أن يكون لمقترحات العدالة الانتقالية فرصة للمساهمة في إرساء السلام الدائم في سوريا، فيجب ألا تحدث عدالة منتصرين فقط.

لا يمكن لهذا النوع من المحاسبة أن يتحقق دون وجود مؤسسات قضائية قوية ومستقلة ومتحررة من التأثير السياسي. ويجب اتخاذ خطوات جادة لإصلاح المؤسسات التي إما شاركت في الإساءات أو تقاعست عن توفير الحماية ضدها. ومن دون هذه الإجراءات، ستظل جميع المساعي الأخرى لتحقيق العدالة الانتقالية مهددة بالفشل.

وتمثّل المحاكمات التي جرت لصدام حسين وأعوانه في العراق مثالاً وتحذيراً صارخاً بشأن الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها المقاضاة الجنائية المعيبة إلى تأجيج الجراح التي تسبب بها النظام الإجرامي بدلاً من العمل على شفائها، وتؤدي بالتالي إلى نتائج عكسية.

"وإذا ما أردنا أن يكون لمقترحات العدالة الانتقالية فرصة للمساهمة في إرساء السلام الدائم في سوريا، فيجب ألا تحدث عدالة منتصرين فقط."
    ومع إبقاء هذه الأمور في الذهن، علينا أن نقر بأنه لن تتم محاكمة كل شخص ارتكب انتهاكاً، نظراً إلى الحجم الهائل للجرائم التي ارتُكبت. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أهمية محاكمة أهم المسؤولين عن أخطر الجرائم، فإن هذه المحاكمات لا تمثل بالضرورة أفضل وسيلة للتعامل مع الجوانب الاجتماعية والتاريخية الكامنة وراء أنماط القمع والجرائم التي وقعت.

ففي بعض الظروف، تكون الإجراءات الرامية إلى البحث عن الحقيقة، مثل لجان الحقيقة، وسيلة مهمة لتوفير شكل آخر وفعّال من أشكال المحاسبة.

وفي الوقت نفسه، يتعين علينا أن نتذكر بأن العدالة لا يمكن أن تركّز فقط على مرتكبي الجرائم ومعاقبتهم إذا ما أردنا تحقيق انتعاش شامل وطويل الأجل للمجتمع السوري. فيجب الإقرار بالضحايا والاعتراف بمعاناتهم وإنصافهم، بما في ذلك وضع برامج لجبر الضرر.

ولا يقتصر الأمر على التعويضات المادية، على الرغم من أهمية هذا الجانب. فالكشف عن الحقيقة بشأن الأشخاص الذين اختفوا يمثل أمراً حاسم الأهمية – فيجب أن تتمكن الأسر من معرفة ما حدث لأحبائها إذا ما أُريد لها أن تشارك مشاركة حقيقية في المصالحة الوطنية. ويمكن لإجراءات جبر الضرر التي تعكس إقراراً بالضرر الذي حدث أن تتخذ أشكالاً متعددة، ولكنها يجب أن تركز على الضحايا والمجتمعات المحلية التي عانت من الضرر، والإقرار بكرامتهم كأصحاب حقوق، وليس كمتلقين للأعطيات الخيرية.

وجميع هذه الإجراءات، إذا ما تم تطبيقها بطريقة شاملة، تمثل عدالة انتقالية، ويمكن الاطلاع على أمثلة عن تطبيقها (بمستويات متفاوتة من النجاح) في بلدان مثل جنوب أفريقيا والأرجنتين وشيلي وألمانيا وبلدان أخرى عديدة.

ومع ذلك، سيكون من الخطير التفكير بالنماذج التي تم تطبيقها في تلك البلدان بوصفها نماذج يمكن نقلها ببساطة إلى سوريا. وهناك دروس تعلمناها على مر الزمن من المساعي الناجحة وتلك الأقل نجاحاً لتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية، ولكن ليس ثمة نموذج يناسب جميع الحالات. وسيتعين على سوريا أن تجد مساراً خاصاً بها. وفي هذا الخصوص، من الأهمية بمكان لأي عملية موثوقة للعدالة الانتقالية إجراء مشاورات كافية على المستوى الوطني، خصوصاً مع الفئات الأشد تأثراً بالإساءات الممتدة منذ عقود.

يتمثل وعد العدالة الانتقالية بأن السلام سيكون أكبر من مجرد وقف الأعمال العدائية؛ وأنه سيتم التصدي لأسباب الحرب وتبعاتها، وذلك من أجل تكريس مجمتع يتمتع بالسلام. ولهذا السبب، فإنه لما يثلج الصدر أن نرى آليات العدالة الانتقالية مطروحة على بساط البحث بوصفها وسيلة يمكنها أن تساعد على إحلال السلام في سوريا.

نحن هنا من أكثر الناس عزماً على أن نرى إجراءات العدالة الانتقالية تُطبق على الأرض، فلقد داومنا على العمل في هذا المجال والدعوة إلى تطبيق الحلول التي يطرحها. ولكن يجب علينا أن ندرك بأن العدالة الانتقالية لا تمثل عصا سحرية، كما أنها ليست بديلاً عن العدالة "التقليدية".

تم نشر هذه المقالة في جريدة The National

لمعرفة المزيد حول عمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الصورة: مقاتل من الثوار يحمل ابنه بعد صلاة الجمعة في منطقة الفردوس بحلب في 7 كانون الأول/ديسمبر 2012. أود أندرسن/أ ف ب/Getty Images