واجب التذكر

02/08/2016

يستمر النقاش المستمر حول إذا ما كان تذكر الماضي المضطرب يعرقل المصالحة. افتتحت الحوار مارسي مورسكي، مديرة البرامج بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية بمقالة: من يقرر التذكر أو النسيان؟ ، تبع ذلك توضيح بابلو دي غريف لموقفه بعنوان: عدم تذكر الماضي يولد الخوف والتلاعب ، وتوضيح ديفيد ريف لموقفه بعنوان: التذكر حليف العدل ولكن ليس صديقا للسلام . في هذه المقالة يرد دي غريف على موقف ريف.


بقلم بابلو دي غريف

إنه من الجيد دوما أن تتاح لي الفرصة لمناقشة محاوراً مثيراً للجدل. مساهمة ديفيد ريف في افتتاحية هذا النقاش، وكذلك عمله الغزير حول هذا الموضوع بما في ذلك كتابيه: "ضد التذكر" الصادر في 2011، "وفي مديح النسيان" الذي سيصدر قريبا، توفر فرصا مثالية لإعادة النظر في شعارات مجال حقوق الإنسان بشكل عام ومجال العدالة الانتقالية على وجه الخصوص.

لن ألخص وجهة نظره سواء مساهمته في هذا النقاش أو في أعماله الأخرى، ولكن فقط سأسرد بعضاً من أهداف جهوده بخصوص موضوع التذكر: الأول هو "عدم تقديس" الذاكرة، والتي أُفسرُها بمحاولة ديفيد للتساؤل عما إذا كان واجبا، أو إلزاما أن نتذكر؛ الثاني هو بعد أن جادل بشكل يرضيه أنه لا يوجد مثل ذلك الواجب، وأنه بالتالي يمكن الدفاع عن الذاكرة فقط من حيث نتائجها الجيدة، لمهاجمة الحجة العواقبية بالقول إن الذاكرة في أحسن الأحوال عمل "وقائي" خَائِر، وأنه في على أية حال، لا يمكن الاعتماد عليها ؛ ضعيف؛ لأنه إذا لم تمنع ذكرى المحرقة مجازر جماعية لاحقة، لا ذاكرة يمكنها، أو يمكن الاعتماد عليها، لأنه حتى وإن قيل أنه قد لعب بعضها دورا وقائيا في بعض الحالات، فإن الحجة القائمة كما يصر ديفيد هي أن " الذاكرة التاريخية نادرا ما تكون مضيافة للسلام وللمصالحة بالشكل التي تحمل الضغينة وتبارز سجلات الشهداء والعداوة الدائمة "(ضد التذكر ص. 55-56)

وقبل أن أتناول بإيجاز هذه النقاط، أود أن أكرر أن المناقشة في كتاب ديفيد ليست خالية من الغموض الذي أشرت إليه في أول مداخلة لي في هذا النقاش، والذي يؤثر في كثير من الأحيان على المناقشات حول الذاكرة. الإشارات إلى "الذاكرة" و "التذكر" غير متمايزة ومحددة بما فيه الكفاية. جاذبية المصطلحات يمكن أن تشير على حد سواء لأعمال تذكر لم تخضع ل "تصفية" أو "معالجة" أو جهد للتحقق من الصحة أو الشمولية مقارنة بأعمال التذكر التي خضعت لنوع من الفحص والطعن و التأطير والتحقق من سمات المنهجية التاريخية وعملها، على سبيل المثال، لجان تقصي الحقائق، التي تقاريرها أكثر بكثير من مجرد سجلات ذكرى لاأولئك الذين قدموا شهادات لهم.

وهكذا، في التمهيد لمناهضة التذكر، كتب ديفيد ريف:

"الناس . . . من بلدي ومن طبقتي الاجتماعية، يميلون إلى إنفاق الكثير جدا من الوقت للتحسر على جهل الغير مبال الذي أصبح الموقف الافتراضي للكثيرين من مواطنيهم، قبل كل شيء الشباب، نحو الماضي. يجب أن نكون أكثر حذرا حول ما نتمناه. حروب "الخلافة اليوغوسلافية" أججت بالتذكر— قبل كل شيء تذكز الصرب الهزيمة في بوليي كوسوفو في 1389. وفي تلال البوسنة، تعلمت أن أكره ولكن قبل كل شيء أن أخاف من الذاكرة التاريخية الجماعية. في استيلائها على التاريخ ، الذي هو شغفي وملجأي الدائم منذ الطفولة، جعلت الذاكرة الجماعية التاريخ نفسه يبدو لا شيء بقدر ما هو ترسانة كاملة من الأسلحة اللازمة للحفاظ على الحروب حية أو على سلام هش وبارد. ما رأيته بعد البوسنة في رواندا، في كوسوفو، في إسرائيل وفلسطين، والعراق، لم يقدم لي أي أساس لتغيير رأيي ".

ولكن ما لم يكن هناك أحد ما على استعدادٍ للإقرار بأنه لا يوجد فرق بين أنواع مختلفة من التذكر، بين على سبيل المثال، التاريخ، من جهة، والاستخدام الاستغلالي لسرديات جزئية من الماضي، من جهة أخرى، فلا يوجد سبب لأخذ حجة ديفيد كحجة عامة ضد التذكر. هناك أعمال للتذكر وطرق لحفظ التاريخ حيا وحاضرا ،و التي من شأنها ليس فقط أن تخدم المصالحة الاجتماعية، ولكن أيضا يكمن القول بأن المصالحة تعتمد عليها. (والواقع أن الفقرة أعلاه، مثل العديد من المناقشات حول هذا الموضوع، تعتمد على إمكانية اتخاذ مثل هذا التمييز ولكن بعد ذلك تنتقل إلى الخلط).

جادلت في مقالتي الافتتاحية في هذا النقاش أن هذا النوع من قول الحقيقة التي هي جزء من سياسة العدالة الانتقالية، والتي يمكن بعد ذلك أن تكون أساسا لأنشطة تخليد مختلفة، ليست مجرد أي سردية للماضي (حتى لو كانت صادقة). إن السرديات الجزئية من الماضي يمكن أن تستخدم لتقسيم الشعب، وفي هذا الشأن فإن ديفيد ليس فقط محقاً بل قدم لنا في العديد من أعماله أمثلة مقنعة كثيرة عن كل من تلك السرديات آحادية الجانب للماضي وآثارها .

هذا هو بَعدُ تأكيد آخر على أهمية النهج في بناء الحقيقة - أو في صياغة قد يتفق معها ديفيد: هذا هو سبب آخر للتأكيد على أهمية هذه النقاشات، ليس كثيرا من خلال "مصطلح الذاكرة" ولكن "الحقيقة"، وحتى يمكن للمرء أن يقول، من خلال الاستغناء عن المصطلح المتناقض "الذاكرة التاريخية".

ترياق "عدم موثوقية" أعمال التذكر، بسبب حقيقة أن الذاكرة يمكن أن تستخدم لأغراض تقسيم ليس التخلص من الاكتراث بالماضي، ولكن التأكد من أن سرديات الماضي التي يتم توثيقها صادقة وشاملة على حد سواء. وغني عن القول أنه لا يوجد سردية كاملة للماضي، تلك التي تحوي وتقتصر على جميع الحقائق. ما يُرجى هو سرديات عن الماضي كافية لوضع التحقيق في اتجاهات تم الإبقاء عليها سرية من قبل ومساهمة، كما قال مايكل ايجناتييف ذات مرة، في وضع حدٍ لما يمكن إنكاره.

لا يمكن إنكار أن أعمال التذكر تَضعَفُ فعاليتها عندما تكون تلك الأعمال على أتمها. ذكريات المحرقة بالفعل "فشلت" في منع المجازر اللاحقة. وإذا نحينا جانبا مسألة من لديه الذكريات ذات الصلة (هل تعرض المسؤولون عن المذابح اللاحقة لأعمال من التذكر ذات الصلة بالمحرقة؟ فحقيقة أننا تعرضنا لا يعني أنهم كذلك)، فأنا لا أعتقد أنه يساعد أي شخص أن يفترض أن التذكر يمكن أن يقدم ضمانات استثنائية، حتى وإن أُسِّس على سرديات صادقة وشاملة حول الماضي تتميز عن الجهود المكشوفة للتلاعب بالولاءات. ولكن هل هذا حقا اعتراض؟ ولكن إلى أي نوع من الإدعاء؟

من الشائع الآن أن نفكر في العدالة الانتقالية باعتبارها سياسة شاملة لديها عناصر أساسية ليس فقط قول الحقيقة ولكن أيضاً المحاكمات الجنائية وجبر الضرر ومختلف "ضمانات عدم تكرار". جزء من السبب في التفكير في هذه العناصر كوحدة شاملة له علاقة له تحديدا بفهم أن أيا من وسائل للانتصاف هذه عاجزة لوحدها عن تحقيق العدالة لانتهاكات من نوع وحجم معين. وبقدر ما لدينا أي سبب للثقة في القياسات القابلة للقياس الكمي، فقد بدأنا في الحصول على دلائل أن تدابير العدالة الانتقالية تعمل على نحو أفضل في مزج مع بعضها البعض عما كانت عليه في عزلة. وتدعم هذه الأدلة حجة مقنعة تماما حول التأثير المتعاضد المتبادل لمجموعة من التدابير منسقة بشكل شامل.

الآن، فإن حقيقة أنه ليس هناك أي تدبير يقدم من تلقاء نفسه بشكل جماعي ضمانات آمنة من الفشل (ولا حتى المسمى الغير بارع: "ضمانات عدم تكرار") لا تبدو لي أن تُشكل اعتراضا مقنعا بشكل خاص. إن أقفال الباب، مثلا، لا تقدم ضمانا آمنا من الفشل ومع ذلك فنادرا ما تؤدي لترك الناس منازلهم غير مقفلة، والأهم من ذلك، إن التفكير في وجود اتجاه لارتكاب نوع معين من الخطأ بشكل لا يلغي إمكانية لتكرار لا يقف ضد التأمل الذاتي.

عند هذا الحد، مع الأخذ بالاعتبار ليس مجرد"أخطاء" بل القدرة على التسبب في معاناة لا توصف للآخرين، فإن اليقظة إلى السجل التاريخي التي تُظهر أدلة متكررة حول تلك القدرة، من وجهة نظري، هي أفضل من لا شيء. وأود أن أضيف، أنه كلما كان الفهم لتلك القدرة مُجمعا ومفصلا ومتعدد الجوانب كلما كان ذلك أفضل، من بين أمور أخرى، لأن الانتهاكات الواسعة النطاق تتطلب أنواعا من التنظيم (موارد وأنشطة، وحتى عادات وميول)، ذلك التنظيم الذي ننخرط فيه ونصبح جزءا منه في حياتنا العادية. وأخيرا، هناك مسألة عما إذا كان هناك بالفعل "واجب للتذكر". أذكرُ أن ريف جادل بأن ليس هناك شيء كهذا وأن السبيل الوحيد للدفاع عن التذكر هو من خلال مناشدة عواقب حميدة (والتي هي غير كافية بشكل كبير في عدد من السبل بشكل يمكنه من الجدل "َضد التذكر" و "في مديح النسيان،" عناوين اثنين من كتبه).

اسمحوا لي أن أختلف. ليست المدونة هي أفضل مكان لوضع حجة في صالح موقف. ولكن دعوني أحاول. مع تذكر أن ما هو على المحك هنا ليس الذاكرة ولكن الاعتراف العام بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأن ورفض الاعتراف بها ومنحها مكانا في فضائنا العام ينطوي على حكم تقديري لا يمكن بأي حال الالتفاف عليه مهين لقيمة الضحايا أو أهمية الحقوق - ليس فقط حقوقهم ولكن حقوق الإنسان بشكل عام لأن قيمة الفكرة هذه الأيام تقع إلى حد كبير في الدرجة التي تعمم بها الحقوق.

وبصرف النظر عما يقال عن أولئك الذين يستمرون في رفض الاعتراف بآلام الآخرين عندما يكون الموضوع هو أعظم الأعمال الوحشية المعروفة للإنسان فإن الااستمرار في رفض الاعتراف بالأضرار الكبيرة يولد أضرار جديدة في حد ذاته . تذكروا مرة أخرى، إن أشكال التذكر التي على المحك في هذه المناقشة ليست ذكريات خاصة ولكن الإظهار العلني للاعتراف.

للدرجة التي نتوقع من الآخرين أن يكونوا جزءا من مجتمع سياسي مشترك، فنحن مدينون لهم باعتراف كاف لأجل أن يأخذوا المشروع بشكل مشترك حقا. وهذا واضح جدا في حالة "بنو جلدتنا". ومع ذلك ف"بنو جلدتنا" لا يشير إلى مواطنينا فقط أو أولئك التي نتشارك معهم التمتع بجنسية ما. نحن اليوم رفقاء في مجتمع من حقوق. للدرجة التي نتوقع من الآخرين أن يثقوا بنا لهذه الصفة، لدينا واجب على تذكر كل شيء لا نتوقع باعتدال ألا ينساه بنو جلدتنا.


بابلو دي غريف هو مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدل والجبر وضمانات عدم تكرار. وهو حاليا باحث رفيع المستوى ومدير برنامج العدالة الانتقالية في جامعة نيويورك. قبل انضمامه إلى جامعة نيويورك شغل منصب مدير الأبحاث في المركز الدولي للعدالة الانتقالية من عام 2001 إلى عام 2014. دي غريف هو محرر ومحرر مشارك لعشرات الكتب التي نشرت على نطاق واسع عن الانتقال إلى الديمقراطية، النظرية الديمقراطية، والعلاقة بين الأخلاق والسياسة والقانون.


الصورة: بابلو دي غريف خلال الدورة ٢١ لمجلس حقوق الإنسان، جنيف. تصوير Violaine Martin