الحقيقة والكرامة للجميع، حتى لأعدائنا

01/04/2015

بقلم : بول سيلز - نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الإنتقالية

في عام 1986 شاهدت فيلم"سلفادور" لأوليفر ستون، وكنت حينها في العشرين من العمر. ويروي الفيلم، من ضمن أمور أخرى، قصة رئيس أساقفة سان سلفادور، أوسكار روميرو، الذي اغتالته كتيبة الموت الحكومية بإطلاق النار عليه في مارس 1980 أثناء إقامته القداس في كنيسة صغيرة قرب كاثدرائيته. فبالنسبة للكاثوليك، يكاد يكون من المستحيل التفكير في فعل أكثر تدنيساً للمقدسات. وبالمثل فإن من المستحيل أن نفكر في رسالة أقوى تبعث بها قوى القمع – مفادها أن لا أحد في مأمن منها، وأن ما من مكان آمن على الإطلاق. لم أكن اعرف شيئا يذكر عن الوضع في السلفادور، ولكني أعرف حقيقة أني لست محامي حقوق الإنسان الوحيد الذي استلهم من قصة روميرو وشجاعته.

لقد أصبح روميرو المتحدث الرسمي باسم المقموعين ومن لا صوت لهم في خضم الحرب الأهلية الوحشية في السلفادور. ولقد عُرف في الأصل بكونه شخصية محافظة نسبيا، ثم أصبح أكثر صراحة مع ما شهد من اعتداءت على كرامة الإنسان ارتكبها النظام القمعي، بما في ذلك، قتل أكثر من 30 من كهنته. وفي عام 2010 أعلنت الأمم المتحدة يوم الذكرى السنوية لاغتيال روميرو يوما دوليا لتعزيز الحق في معرفة الحقيقة فيما يتعلق بالانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وكرامة ضحايا. ويشكل اعتراف الأمم المتحدة بالصلة الأساسية بين فكرتي الحقيقة والكرامة، والتزام روميرو بهما، خطوة حكيمة ومناسبة.

وفي السنوات التي تلت اغتيال روميرو (الذي أعلنت الكنيسة الكاثوليكية بقيادة البابا فرانسيس أنها تعترف به بوصفه شهيداً من شهدائها, أصبح العالم أقرب إلى قبول فكرة وجوب محاسبة المسؤولين عن مثل تلك الأعمال الفظيعة التي دعا إلى مقاومتها.    
" أعرف حقيقة أني لست محامي حقوق الإنسان الوحيد الذي استلهم من قصة روميرو وشجاعته”

والفكرة المحورية لهذه الممارسة هي أن للضحايا الحق في معرفة أكبر قدر ممكن من ملابسات الانتهاكات التي وقعت - من حيث تفاصيل الهجمات المحددة وكذلك من حيث أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية الكامنة وراءها والتي أدت الى التجاهل الفاضح لأدنى معاييرالأخلاق. هذه هي فكرة الحقيقة التي نتحدث عنها.

ما هي فائدة البحث عن الحقيقة؟ في الواقع هناك سببان. أولا، فكرة أن للناس حقوقاً يتمتعون بها بحكم كرامتهم كبشر (وليس لأي شيء آخر) وأن للكرامة معنى فقط عندما تُتخذ خطوات للإعتراف بها حين يُعتدى عليها بشكل فظيع. ثانيا، لن تتقدم المجتمعات أو تحمي نفسها من فترات القمع والاعتداء طالما سُمح باستخدام غطاء الإنكار كوسيلة سهلة للتعتيم على ما حدث. وكما قال مايكل ايجناتييف، إن الحقيقة التي نتحدث عنها هي من النوع الذي "يُضيّق نطاق الأكاذيب المسموح بها".

وهناك العديد من الطرق للوصول إلى هذا النوع من الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان. ففي التسعينيات من القرن العشرين، أسرت فكرة لجان الحقيقة مخيلة العامة، وخصوصا عندما قامت جنوب أفريقيا، مستوحية من أمثلة الأرجنتين وتشيلي، بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة لمعالجة الانتهاكات التي وقعت في عهد الفصل العنصري. وبعد مرور عشرين عاما، ثمة أسباب تدعو للقلق حول الطريقة التي قد يساء بها استخدام لجان الحقيقة في بعض الأحيان – كمجرد عملية روتينية شكلية لإرضاء مجتمع دولي يبدي اهتماما عابراً.

إن السبل التي يسعى من خلالها الضحايا والمجتمعات إلى كشف الحقيقة حول الانتهاكات التي وقعت في بلدانهم لا تقتصر على لجان الحقيقة، ويجب أن لا تقتصر عليها. فالمحاكمات الجنائية، واستخراج رفات الضحايا، وتحقيقات الطب الشرعي، وجبر الضرر وإجراءات التعويض يمكن أن تساهم جميعها في فضح الممارسات والانتهاكات المنهجية الماسة بحقوق الإنسان، وآثارها على الضحايا. وبالمثل، فإن للقضايا المعروضة أمام أجهزة حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، ولجان تقصي الحقائق، وكذلك كشف المؤسسات الفاسدة، دورا هاما.

وقد أظهرت التجارب في أماكن متباعدة مثل تشاد وغواتيمالا أن إجراء دراسة شاملة للأرشيفات المؤسساتية يمكن أن يكشف العقلية والممارسات الملتوية لأولئك الذين كانوا مكلفين بإدارة قوات الأمن أو الوكالات الحكومية. ويُستهان أيضاً في بعض الأحيان بأهمية بذل الجهود المناسبة لإحياء ذكرى ضحايا التعسف. ورغم أن النصب التذكارية لا تكشف الحقيقة، الا أنها تبيّن الحقيقة في إطار محدد، بطريقة تمكّن المجتمع من أن يراها ويلمسها ولا يستطيع تجاهلها.    
" إن السبل التي يسعى من خلالها الضحايا والمجتمعات إلى كشف الحقيقة حول الانتهاكات التي وقعت في بلدانهم لا تقتصرعلى لجان الحقيقة، ويجب أن لا تقتصر عليها."

وعلينا أن نتوخى الحذر لئلا نضع الحقيقة في "صندوق على شكل لجان الحقيقة" أي في إطار معقم وآمن يحد من محاسبة قوات القمع. فالسعي لكشف الحقيقة ليس هو الخيار الأنسب الثاني في ظل غياب سبل الانتصاف الأخرى: بل هو الشرط الأساسي الأبرز لتُأخذ كرامة الضحايا على محمل الجد.

وتختلف احتياجات الناس باختلافهم. فبعضهم يحتاج إلى معرفة الحقائق المجردة، أي أن يقال لهم على سبيل المثال أن والدهم المختفي قد قٌتل فعلاً. فالحقيقة، مهما كانت مؤلمة، قد تشكل خاتمة ضرورية. ولكن العنصر الحاسم في كثير من الأحيان (وربما دائما) هو الاعتراف. وما الإقرار، والاعتراف بالضرر، والاعتراف بتجاهل كرامة الآخرين، سوى عوامل يمكن أن تساعد على المصالحة واستعادة الثقة وتحريك المجتمعات نحو مستقبل يحترم الحقوق. ويمكن أن يأخذ هذا الاعتراف أشكالا عديدة، من الاعتذار، إلى العقوبة، إلى تعديل المناهج التعليمية للإقرار بالفظائع والقمع.

وفي العام الماضي، أنشأت تونس لجنة الحقيقة والكرامة للتحقيق في ادعاءات الانتهاكات التي تُنسب إلى نظام بن علي، الذي أُزيح عن السلطة خلال ثورة عام 2011. وهذه هي المرة الأولى التي تحمل فيها لجنة مثل هذا الاسم. إنه إعتراف إضافي بالصلة بين الفكرتين، وجدير بالترحيب.

إن العمل الفظيع الذي وقع الأسبوع الماضي في تونس يهدد بموت آخر زهرة ناجية من "الربيع العربي". وأولئك الذين نفذوا هذا العمل قدموا مساعدة لا تضاهى للنظام السابق في تونس الذي يسعى لتغطية الانتهاكات التي ارتكبها عندما كان مسنوداً ومقبولا من جانب الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة. وتواجه تونس اليوم خيارا بين التذرع بعذرٍ للرجوع إلى ممارسات مناهضة للديمقراطية، أو البقاء ثابتة في التزامها بالحقيقة في سبيل الكرامة الإنسانية.

وحين تحدث انتهاكات، فإنه يجب إظهارها لا إخفاؤها "لمصلحة الأمن". فحين تُخفى الحقيقة بشأن الإنتهاكات، لن يظل أحد في مأمن على المدى الطويل.

لقد ظل روميرو ملتزماً بهذه الفكرة حتى حين أتهمته الحكومة السلفادورية بكونه أداة في يد المتمردين الشيوعيين. ولقد واجه نفس الافتراءات التي يواجهها دائما المدافعون عن حقوق الإنسان. إن المسألة المهمة في حقوق الإنسان هي أنها للجميع. فحقوق الإنسان، بحكم التعريف، تفيد أعدائنا كما تفيدنا. وإن الطريق لوقف انتهاكات حقوق الإنسان لا يكون بدعمها لصالح أصدقائنا ومنعها على أعدائنا، لأن ذلك لن يؤدي إلا لتقويض تلك الحقوق التي نعلن أننا نعتز بها.


الصورة: لوحة روميرو على جدار مركز للمجتمع، السلفادور. عبر فليكر