كلمة ديفيد تولبرت، رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة أمام الندوة الوطنيّة لإطلاق الحوار حول العدالة الانتقاليّة في تونس

15/04/2012

كلمة ديفيد تولبرت، رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة أمام الندوة الوطنيّة لإطلاق الحوار حول العدالة الانتقاليّة في تونس

تونس العاصمة، 14 نيسان/أفريل 2012

السيد رئيس الجمهوريّة السيد رئيس المجلس الوطني التأسيسي السيد رئيس الحكومة السيد الوزير سمير ديلو، السادة الوزراء حضرة الأصدقاء والزملاء من تونس وسائر الدول،

يسرّني ويُشرِّفني أن أكون حاضراً بينكم اليوم بمناسبة انعقاد هذه الندوة الوطنيّة المهمة. فقبل سنةٍ من اليوم وفي التاريخ نفسه، اي بعد ثلاثة أشهر على مبادرة الشعب التونسي السلميّة إلى إنهاء عقودٍ طويلةٍ من القمع، كان لي شرف تناول الكلمة في مؤتمر دعا إليه المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة في تونس العاصمة بالتعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق. وتخلل المؤتمر نقاشٌ مهمٌّ وحيوي حول كيفيّة معالجة إرث الماضي والمضي قدماً نحو المستقبل. ومنذ ذلك اليوم، استوقفتني التطوّرات الإيجابيّة المحرزة. فبطبيعة الحال طرأت تغييرات سياسيّة أفضت إلى انتخاب المجلس الوطني التأسيسي بطريقةٍ ديمقراطيّةٍ وإلى تشكيل حكومة جديدة في شهر كانون الأوّل/ديسمبر وتأليف وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة وهي على ما أظنّ الأولى من نوعها في العالم.

وفي مجال العدالة الانتقاليّة، إتخذت مبادرات مهمة مع تأسيس لجنة وطنية لتقصي الحقيقة في انتهاكات حقوق الإنسان المرتبكة خلال الثورة والتي كان لنا شرف التعامل معها – ومن المتوقع أن تنشر تقريرها في القريب العاجل – وإنشاء اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق بشأن الرشوة والفساد والتي انتهت من إعداد تقريرها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر واستبدلت اليوم بهيئة دائمة لمكافحة الفساد. ولا شكّ في أنّ عمل هاتين اللجنتين إلى جانب الأدلّة والإثباتات ومقترحات منظمات المجتمع المدني سوف يُشكِّل مصدر معلومات سيغني الحوارالوطني الذي سينطلق اليوم ويُشكِّل خير مساعدٍ لآليّات العدالة الانتقاليّة مستقبلاً.

وفي ظلّ هذه الظروف، نرحّب كلّ الترحيب بانعقاد هذه الندوة. فلا شكّ في أنّ الحوار والإستشارات التي تمهّد لاعتماد إستراتيجيّة عدالة انتقاليّة تُساهمم في إرساء مسلسل العدالة الانتقاليّة بحد ذاتها. و يُساعد هذا الأمر المواطنين على الشعور بامتلاك العمليّة التي تُصبح محطّ ثقتهم.

يُعرب المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة عن سروره الشديد لتلقيه دعوة للمشاركة في أعمال هذه الندوة والتعبير عن رأيه. ومن هذا المنطلق اسمحوا لي أن أشارككم بعضاً من النقاط الإجماليّة بشأن العدالة الانتقاليّة قبل أن أتوقّف عند بعض المسائل ذات الصلة بتونس.

غالباً ما تشيع مغالطات حول معنى العدالة الانتقاليّة. فلا تعني هذه الأخيرة شكلاً من أشكال "العدالة اللينة" أو السعي إلى إحلال بديل عن آليّات المساءلة العاديّة عن انتهاكات حقوق الإنسان بل هي تعني محاولة تطبيق القواعد العاديّة التي ترعى شؤون العدالة وحقوق الإنسان في ظروفٍ غير عاديّة. وتشمل هذه الظروف، على غرار ما يحصل في تونس اليوم، التغيير السياسي الجذري الذي يتعيّن من خلاله ضمان الانتقال من نظامٍ قمعي قديم إلى آخر جديد يضمن الاستقرار والمساءلة على حد سواء.

ولقد رست أبرز آليّات العدالة الانتقاليّة اليوم على برّ الأمان. وهي تشمل االتحقيقات الجنائيّة والمحاكمات – وبصفتي مدعٍ عام سابق في محاكم دوليّة أعي أهميّة إحالة الجناة أمام القضاء – والبحث عن الحقيقة وإصلاح المؤسسات عن طريق فحص الموظفين العامين وجبر الأضرار التي لحقت بالضحايا.

وتفيد التطوّرات الطارئة على القانون الدولي وممارسات العدالة الانتقاليّة في خلال السنوات العشرين المنصرمة بأنّ المشكلة التي تعترض سبيل السلطات الوطنيّة لا تقتصر على إجراء الملاحقات القضائية أو عدم إجرائها بل هي على صلةٍ بموعد إجرائها كما أشار أمين عام الأمم المتحدة عام 2004 وبتحديد سائر الآليّات الضروريّة لضمان درجة قصوى من العدالة في معالجة الانتهاكات المرتكبة في الماضي بأكثر السبل فعاليةً. وفي الوقت نفسه، وبالإضافة إلى الاعتراف بحقوق الأفراد وكرامتهم، ترمي العدالة الانتقاليّة إلى إعادة بناء أواصر الثقة بين المواطنين والمؤسسات والتي قد شكّلت حتّى زمنٍ ليس ببعيد أدوات قمع بامتياز.

وعمل المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة في ظروف انتقاليّة في شتّى انحاء العالم لمدّةٍ تزيد على عشر سنوات. ويمدّ المركز يد المساعدة عن طريق مساندة الحكومات والمجتمعات على ابتكار حلول عمليّة خاصة بها من خلال إسداء النصح والمشورة بالاستناد إلى التجارب العالميّة المقارنة. واسمحوا لي أن أشارككم بعض الأفكار حول أبرز مكوِّنات عمليّة عدالة انتقاليّة ناجحة وهي مكوِّنات أعتبرها ذات صلة بالسياق التونسي.

ففي ما يتعلّق بالملاحقات القضائية، يجب العمل على تحديد دور العدالة الجنائيّة في تصويب عقودٍ من الانتهاكات القمعيّة الممارسة بحق المواطنين وعلى معالجة التحديات اليوميّة التي تقضي بالتحقيق في الجرائم المرتكبة وملاحقتها. وقد يستوجب هذا الأمر إنشاء وحدات متخصصة ضمن النيبات العامة و/أو غرف مختصة – مثلاً في مجال انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة أو الفساد.

سمعنا الزملاء من تونس يُنددون بإقدام النظام السابق على إستغلال بعض المدعين العامين والقضاة كأداةً لكمِّ أفواه المعارضين وتسهيل ممارسات الفساد في حين نعرف أيضا أنّ العديد من القضاة التونسيين تصدّروا النضال في سبيل حقوق الإنسان في ظلّ النظام السابق. ونعي أيضاً الانتقادات الموجهة إلى المحاكمات التي أجريت فوراً بعد انتهاء الثورة والتي يؤخذ عليها سوء تنظيمها. وعليه، تؤدّي السلطة القضائيّة وإجراء محاكمات عادلة في فترةٍ انتقاليّة دوراً مهماً بقدر أهميّة معاينة دور السلطة القضائيّة في الحقبة الماضية والخروج بالاستنتاجات الضروريّة لناحية فحص القضاة.

أمّا بخصوص البحث عن الحقيقة، فكما سبق وذكرت، تؤدّي لجنتا التقصي دوراً مهماً للغاية. وكان إتخذ القرار بتفويض إحدى اللجنتين مهمّة التركيز على الفساد قبل إقامة هيئة دائمة لمكافحة الفساد قرارا صائبا.

أعي وجود دعم شديد في تونس لإنشاء لجنة حقيقة تكون لها إختصاص وصلاحيات تفوق ما تتمتع به هاتان اللجنتان. وتُشكّل هذه الخطوة محطّ ترحيب. فيتعيّن عندئذٍ البتّ في مسائل مثل تحديد فترة زمنية منطقيّة تنظر فيها اللجنة واختيار أعضاء اللجنة ومنح الصلاحيّات الضروريّة لحمل الشهود على الإدلاء بشهادتهم وتحديد المستندات التي يجب الإفراج عنها إلى جانب مسائل إجرائيّة أخرى. وأنا على ثقةٍ بأنّ الفرصة متاحة في تونس للابتكار والنظر في أفضل سبيلٍ إلى معالجة الانتهاكات التي تلحق بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة من جهة والسياسيّة والمدنيّة من جهةٍ أخرى.

أمّا في ما يخصّ إصلاح المؤسسات، فيتعيّن على الدولة أن تستعيد ثقة مواطنيها فتُعطي الضمانة الضروريّة للحيلولة دون تكرار انتهاكات الماضي.

وتُعدّ عمليّة فحص الموظفين العامين أكثر جوانب الإصلاح إلحاحاً وهي تقضي بالنظر في سجلّ موظفي الدولة وإبعاد من يتحمّل من بينهم مسؤوليّة اتخاذ الأمر بفرض الانتهاكات أو تطبيقها. ففي أوروبا الشرقيّة على سبيل المثال وبعد سقوط جدار برلين، قامت العديد من الدول بإعتماد برامج حاولت من خلالها أن تُخرج من اوساط الوظيفة العامة موظفين يُزعم أنّهم كانوا متورّطين في ممارسات الأنظمة الشيوعيّة القمعيّة السابقة. وفي دولٍ أخرى على غرار السلفادور، نظرت برامج أخرى أكثر محدوديّةً في إبعاد أكبر المرتكبين من قوّات الشرطة. أمّا حجم برامج فحص الموظفين ونطاق تركيزها فيرتبط إلى حدٍّ بعيد بسياق كل بلد. ومن بين جميع آليّات العدالة الانتقاليّة ، يُشكِّل فحص الموظفين العامين أكثر العمليّات تعقيداً على الأرجح. وكما رأينا في العراق، يُمكن أن تفضي محاولة إسقاط البيروقراطيّة كاملةً بجرّة قلم إلى مشاكل أعظم من المشاكل التي تحاول ان تُعالجها. ويتعيّن على الدول التي عانت من القمع لسنوات طويلةٍ أن تُقيم ميزاناً بين الاستمراريّة الإداريّة وإقامة مؤسسات موثوقٍ بها. وعليه لا يكفي طرد بعض ضبّاط الشرطة أو القضاة. فلا بدّ من إقامة عمليّة شموليّة ومنصفة مخطط لها على النحو المناسب. ولا يفوتنا حجم هذا التحدّي ولكن لا بدّ من المسارعة إلى مواجهته.

وفي ما يخصّ جبر الأضرار التي لحقت بالضحايا، تخلل العام المنصرم اعتماد بعض تدابير التعويض المحدودة ولكن هناك حاجة إلى إقامة برنامج لجبر الضرر يعترف بجميع الضحايا من دون استثناء ويستجيب للحاجات الملّحة والحاجات على المدى البعيد في آن. ويتمتع الضحايا في تونس كما في أي مكانٍ آخر بالحقّ في جبر الضرر كما في معرفة ظروف وهويّة من انتهك حقوقهم.

كثيرة هي التحديات الفنيّة والقانونيّة واللوجستيّة التي تعترض سبيل الآليّات الآنف ذكرها مثل الملاحقات القضائية والكشف عن الحقيقة وإصلاح المؤسسات وجبر الأضرار. ولقد خلص المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة إلى استنتاج محوري حول أهميّة وضع إستراتيجيّة متماسكة تُعنى بمبادرات العدالة الانتقاليّة. ولقد رأينا في العديد من الدول إنشاء لجان حقيقة من دون التفكير في تبعات ذلك على الملاحقة القضائيّة أو محاكمات قضائيّة ولجان حقيقة وبرامج لفحص الموظفين في عزلةٍ أحدها عن الآخر أو بما يقوِّض أحدها الآخر في حين ان التنسيق في ما بينها لكان من شأنه ان يزيد من فعاليّة كلٍّ منها. ونتيجةً لذلك، ولو نجحت بعض الآليّات منفردةً فإن العدالة الانتقاليّة أخفقت بشكلٍ عام وأحبطت آمال الشعوب.

ومن التحديات التي تعترض سبيل الدولة، إقامة التوازن الصحيح بين عمليّة التخطيط السليم من جهة ومتابعة الزخم في استعادة ثقة المواطنين من جهةٍ أخرى. فإذا اتسمت العمليّة ببطء شديد، فقد الشعب ثقته. وإذا افتقرت العمليّة إلى التخطيط وكانت متسرِّعةً، خابت الآمال. وتُساعد إستراتيجيّة شاملة على إقامة الثقة في الحكومة من خلال إبراز جديّتها في معالجة قضايا الماضي. وتُعدّ هذه الإستراتيجيّة فعّالةً من حيث الكلفة وتسمح للحكومة والمجتمع المدني بالوقوف معاً عند طبيعة التحديات التي تواجههما وتحديد الأولويّات ذات الصلة. وستُشكل هذه الإستراتيجيّة في نهاية الأمر ضمانةً على أنّ الآليّات على اختلافها هي متكاملة ومترابطة.

وأنا أتوق لأن تؤدّي وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة في تونس دور الميُسِّر في عمليّة وضع إستراتيجيّة متماسكة تجمع بين مختلف الفعاليّات ذات الصلة داخل الدولة والمجتمع المدني.

اسمحوا لي أن أنوِّه بنقطةٍ إضافيّة تُشدد على أهميّة أن تتسم الإستراتيجيّة بالشموليّة فتضمن مشاركة جميع أطياف المجتمع لا سيّما المهمّشين منهم والمستضعفين. وكما أشارت الحكومة مرّاتٍ عدّة، لا يُمكن للأكثريّة أن تتخذ قرارات العدالة الانتقاليّة وتفرضها على الأقليّة. لا بل يجب أن تكون العمليّة نتيجة توافقٍ شموليٍّ قدر الإمكان ضمن إطار قانون حقوق الإنسان الدولي والواجبات الدوليّة المناطة بكلّ دولة.

اسمحوا لي في هذا الصدد أن أُعبِّر لكم عن إعجابي الشديد بحيويّة المجتمع المدني في تونس وبتعدد مشاريع ومبادرات العدالة الانتقاليّة منذ شهر كانون الثاني/ جانفي 2011. ولقد كان للمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة شرف العمل مع التنسيقيّة الوطنيّة المستقلّة للعدالة الانتقاليّة والشبكة التونسيّة للعدالة الانتقاليّة. ونحن نتطلّع إلى العمل مع هيئات أخرى.

ولقد برهنت تجارب أخرى في مجال العدالة الانتقاليّة بأنّ المقاربات من الأعلى حتى الأسفل لم تمنح الإجابات المناسبة لحاجات الضحايا ومخاوفهم أو لتوقّعات المجتمع. ومن المطمئن أنه يمكن للحكومة والمجلس الوطني التأسيسي الإتكال على مجتمع مدني على هذا القدر من الديناميكيّة. ولقد رأينا في العديد من دول العالم أنّ نجاح العدالة الانتقاليّة مرتبط إلى حدٍّ بعيد بالشراكة المتينة بين الحكومة ومجموعات الضحايا ومنظمات حقوق الإنسان غير الحكوميّة والجمعيّات النسائيّة والمنظمات الشبابيّة والاتحادات العماليّة والنقابات ووسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديميّة وبطبيعة الحال الأحزاب السياسيّة.

ومن المهم أيضاً للمرأة التي أدّت دوراً هاماً في مقاومة القمع في تونس وفي الثورة أن تكون حاضرةً وتؤدّي دوراً مركزيّاً في العدالة الانتقاليّة ضماناً لحقّوقها. فاعتماد مبدأ المناصفة (parité) في انتخابات شهر تشرين الأوّل/أكتوبر هو خير دليل على قدرة المجتمع التونسي على الابتكار من أجل ضمان مشاركة النساء الفعليّة والحقيقيّة في إرساء العدالة الانتقاليّة.

كما يجب أن تشمل العمليّة فعاليّات قادمة من المناطق الداخليّة الفقيرة والأقليّات على أنواعها. ويؤدّي أي إخفاق في هذا الصدد إلى زيادة التصدعات المؤديّة إلى انعدام المساواة اليوم ومستقبلاً.

وفي الختام، يُمكن استخلاص العبر من تجارب مماثلة في البيرو وغيرها من الدول وجدير الذكر أنّ المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة قام في خلال الشهر المنصرم بتنظيم لقاء بين مواطنين من تونس وخبراء في مجال العدالة الانتقاليّة في بيرو. ولا يفوتنا أن نذكر أيضا التجربة المغربيّة التي تُقدِّم لنا دروساً مفيدةً في ما يخصّ مثلا بجبر الضرر الجماعي وكذلك إعتماد مبدأ الإنصاف والمساواة بين الجنسين في برامج جبر الضرر الفردي. ولاشكّ في أنّ تونس وبالنظر إلى وضعها الاستثنائي سوف تعدّ نموذجاً خاصاً بها في مجال العدالة الانتقاليّة. وتُشكِّل المواهب الاستثنائيّة التي تتمتع بها تونس في مجالات عدّة، مقوِّمات أساسيّة للتفوِّق في إقامة عدالة انتقاليّة ناجحة. ويُعرب المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة عن استعداده للاستمرار في تزويد الدعم الضروري.

وحيث أطلقت تونس شرارة ما يُتعارف على تسميته بالربيع العربي، فهي تتحلّى تالياً بالقدرة على أن تُشكِّل مثالاً يحتذى به في سائر الدول فتكون قدوةً ونموذجاً للعدالة الانتقاليّة في سائر دول المنطقة والعالم.

وشكراً