فلتكن العدالة أساساً لليبيا الجديدة

24/08/2011

بقلم ديفيد تولبرت

بعد أن هدأت المعارك وخفت أصوات النيران فوق طرابلس، تجد السلطات الليبية الجديدة نفسها أمام معضلات هائلة تتعلق بترتيب الأولويات في سعيها لبناء مستقبل جديد؛ وسوف تشهد مدنها خلال الأيام والأسابيع المقبلة وفوداً متعاقبة من السفراء والمبعوثين يأتونها من مختلف دول العالم ؛ بعضهم سوف يؤكد بإلحاح على ضرورة التصدي للقضايا الأمنية على الفور، والبعض الآخر سوف يطالب بإعطاء الأولوية للإقتصاد والتنمية؛ ولكن لا بد أن يكون هناك أيضاً أولئك الذين يدعون لتحقيق العدالة أولاً، وعلى وجه السرعة.

وقد يتفهم المرء مختلف المصالح والحيثيات التي تقف وراء تلك الأجندات الأحادية الموضوع التي تفترض فصلاً وتسلسلاً للأولويات؛ ولكن يجب على الليبيين مقاومة الضغوط التي قد تحدو بهم إلى تبني حلول توضع خصيصاً لمعالجة هذه المشكلة أو تلك، والسعي بدلاً من ذلك لتحقيق الهدف النهائي – ألا وهو بناء مجتمع جديد وعادل. فلو أمعنا النظر في التجارب المرتبطة بالتغيرات الهائلة السابقة، من برلين عام 1989 إلى القاهرة في الوقت الحاضر، لتبين لنا أن صناع ليبيا الجديدة في وضع مثالي يتيح لهم أن يدركوا أن العدالة أمر بالغ الأهمية لمستقبل بلادهم باعتبارها مرتبطة ارتباطاً وثيق العرى بالاستقرار والأمن والتنمية.

فالشوارع التي دمرها القصف بالقنابل في طرابلس وبنغازي ومصراتة، وغيرها من المدن الليبية، تذكرنا بالانقسامات القبلية والإقليمية التي عمقتها شهور من الصراع، والتركة البشعة التي خلفها الحكم الديكتاتوري لمعمر القذافي على مدى 42 عاماً. وهناك مهمة تفوق كل ما سواها أهميةً في الواقع الجديد لمرحلة ما بعد القذافي: بناء المؤسسات القادرة على إحقاق العدالة، وضمان الحقوق الإنسانية لجميع المواطنين، بما في ذلك عشيرة القذافي نفسها، إن لم نقل بدءاً بها.

ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن التعطش للعدالة والمساواة هو الذي ألهب شرارة الثورة في المقام الأول، بل لأن سيادة القانون والمؤسسات النزيهة والعادلة والفعالة سوف تكون هي الوسيلة الرئيسية والناجعة للتغلب على الخلافات والانقسامات الداخلية، وضمان نجاح العملية الانتقالية التي تقود إلى مجتمع مستقر لا تشوبه شوائب الماضي ولا تعكر صفوه. وبالرغم من أنه من الواضح أن الأمر لا يمكن مطلقاً اختزاله في رجل واحد، فهناك في ليبيا اليوم قضية واحدة تشغل بال كل من يتحدثون عن العدالة.

قضية القذافي: لاهاي أم طرابلس؟

لقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات إعتقال بحق كلاً من معمر القذافي، وابنه سيف الإسلام، ورئيس جهاز مخابراته عبد الله السنوسي، بتهمة ارتكاب جرائم ضد المتظاهرين في الأيام الأولى من الانتفاضة الليبية. وكان مجلس الأمن قد أحال القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفي ظل ظروف يستحيل معها توقع إجراء تحقيقات وافية في ليبيا ذاتها حول ما زُعم وقوعه من جرائم ضد الإنسانية.

وقد صرح رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل بأنه لا بد من تقديم القذافي وأتباعه إلى "محاكمة عادلة يجب أن تجري في ليبيا"؛ وهو الأمر الذي يستوجب من ليبيا تقديم طعن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بنظر هذه القضية، وإثبات أن ليبيا تحقق في هذه القضية على نحو فعال، وأنها قادرة على مباشرة إجراءات الملاحقة القضائية. وعند النظر في هذا القرار، سوف تجد السلطات الليبية نفسها تخطو في طريق ضيق بين ضرورة إحقاق العدالة على نحو يتجلى للعيان من ناحية، وما قد ينشأ من ظنون وانطباعات مؤداها أن هذه العدالة ليست سوى عدالة المنتصر من ناحية أخرى

ولئن كانت المحكمة الجنائية الدولية هي في واقع الأمر بمثابة الملاذ القضائي الأخير - ويجدر بالليبيين أن ينظروا إليها على أنها كذلك عند النظر في سبل المضي قدماً في هذه القضية – فلا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار أيضاً ما لحق من دمار شامل بالمؤسسات الليبية في ظل نظام القذافي. وعلى النقيض من تونس ومصر، سوف يكون لزاماً على ليبيا بناء سلطتها القضائية من الصفر تقريباً، ولا شك أن اكتساب القدرة الضرورية لإجراء مثل تلك المحاكمات المعقدة بصورة عادلة سوف يستغرق وقتاً طويلاً، ويتطلب الكثير من الموارد.

ومحاكمة أي رئيس دولة سابق تنطوي على تحديات جسيمة بالنسبة لأي سلطة قضائية في أي مجتمع، فضلاً عن مجتمع خرج لتوه من عقود من الحكم الديكتاتوري، ومن براثن صراع داخلي دموي. . وبالرغم من أن كل سياق فريداً من نوعه، فليس الليبيون بحاجة لأن يذهبوا بأبصارهم إلى بعيد – وها هي القاهرة عبر الحدود منهم – ليروا بجلاء أن مثل تلك المحاكمات كثيراً ما تكون مسيسة إلى حد بعيد من جانب أنصار المتهمين ومعارضيهم على السواء. وإذا ما أسيئت إدارة هذه المحاكمات، ولو بأدنى درجة، فمن شأن ذلك أن يعمِّق الخلافات والانقسامات بدلاً من أن يؤدي إلى اندمال جروح المجتمعات المظلومة، وإشاعة شعور بالعدل والإنصاف لدى الجميع.

وهناك حالات أخرى يمكن استخلاص دروس قيمة منها. ونخص منها بالذكر إجراءات محاكمة صدام حسين التي اتسمت بالفوضى في قاعة المحكمة، وتخللتها ادعاءات حول قصور الدفاع. كما أن الأسلوب الذي أعدم به – حيث راح جلادوه يعيِّرونه ويسخرون منه – عززت الانطباعات السائدة بين أنصاره بأن مثل هذه العدالة ليست سوى عدالة المنتصر، الأمر الذي عمَّق الانقسامات في العراق. وفي سياق مختلف، اتخذ سلوبودان ميلوسيفيتش محاكمته التي استغرقت خمس سنوات أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بمثابة منبر سياسي. وانتهت المحاكمة بوفاته قبل اكتمال الإجراءات القضائية، مما ترك الضحايا بدون الإنصاف المرضي لهم الذي يتحقق بصدور حكم قضائي؛ أما أنصاره فقد باتوا على قناعة بأنه لقي حتفه مظلوماً بأيدي من حاكموه.

ليبيا بحاجة لأكثر من تقديم القذافي للمحاكمة

لا ينبغي للسلطات الليبية التسرع في اتخاذ هذا القرار تحت ضغوط داخلية أو خارجية. أهم ما في الأمر هو أنه أياً كان السبيل الذي يقررون انتهاجه، فلا بد أن يدركوا إدراكاً تاماً أن محاكمة القذافي وأتباعه لن تكون في حد ذاتها كافية لتقديم العدالة الشاملة التي تحتاج إليها البلاد.

وهذا الإدراك يتجلى بوضوح في كلمات مصطفى عبد الجليل إذ قال: "وهذا الإدراك يتجلى بوضوح في كلمات مصطفى عبد الجليل إذ قال: "نحن بحاجة لأن نعرف لماذا أسيء إلينا خلال 42 سنة الماضية، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كانت هناك فرصة حقيقية لمحاسبة كل سجين في محاكمة عادلة". عبد الجليل، وهو وزير عدل سابق، يعي تماماً أن من حق الليبيين معرفة الحقيقة بشأن التعذيب، وحالات الاختفاء القسري، وأعمال القتل التي جرت في عهد القذافي، بما في ذلك القمع الدموي لمظاهرات مارس/آذار 2011، والمجزرة التي وقعت في سجن أبو سليم عام 1996، وغيرها.

غير أن الحقيقة والعدالة اللتين يتوق إليهما الليبيون سوف تقتضيان أكثر من محاكمة عدد مختار من الجناة الذين تتوفر أدلة على أفعالهم. فهما تستوجبان إتاحة منبر للضحايا كي يرووا مآسيهم وقصصهم، وبذل جهود للوقوف على أسباب الانتهاكات، وتيسر الاطلاع على سجلات ومحفوظات النظام السابق. وسوف تتطلبان كذلك آلية لاستكمال الحقائق التي يتم التثبت منها عن طريق المحاكمات، وطنية كانت أم دولية، ووسيلة يتلقى الضحايا من خلالها تعويضات مادية ورمزية عما كابدوه. وسوف تساعد هذه الآليات على إيجاد سجل تاريخي شامل مما يحول دون أي محاولة لإعادة كتابة التاريخ، وتوعية الجيل الجديد من الليبيين بوقائع الماضي للتحقق من عدم تكرارها.

ولن يكون أي من هذا ممكناً بدون مؤسسات قوية ومستقلة لا تخضع لأي نفوذ سياسي، وبدون قوات الأمن، والسلطة القضائية قبل كل شيء. ولا شك أن بناء المؤسسات المنهارة خلال أربعة عقود من الحكم الديكتاتوري، والإهمال الشامل، والفساد، والانتهاكات، يمثل تحدياً هائلاً، ويجب على الليبيين النظر في أفضل السبل للاستفادة من المساعدات الخارجية المحتملة على النحو الذي يمكنها من التصدي لهذا التحدي. وهنا أيضاً يجد الليبيون أنفسهم في وضع مناسب للتعلم من تجارب الدول الأخرى عند النظر في سبل تنفيذ الإصلاحات المؤسسية، ونوع المساعدة الدولية الجديرة بالقبول. ويمكن اعتبار دول يوغوسلافيا السابقة بمثابة منجم ذهب للدراسات حول الإخفاقات والنجاحات النادرة في السعي لإصلاح مؤسسات الدولة في مجتمعات خرجت منقسمة من رحم الديكتاتورية والصراع.

إيقاف دوامة العنف

وفي نهاية المطاف، يتعين على الليبيين ومن يسعون حقاً لمساعدتهم التسليم بأن الاستثمار في تحقيق العدالة لن يكون أقل أهمية على المدى البعيد من الأموال المقدمة لإصلاح الطرق وترميم المباني ومصافي النفط على المدى القصير. . لقد خرجت ليبيا لتوها من حقبة حكم القذافي، ويحمل المجتمع بقايا وإرث صراع استمر لمدة ستة أشهر، وبات المواطنون يتوقون للتعافي والعدل والأمن والرخاء. ولن يتسنى للبلاد استرداد كامل عافيتها ما لم يجمع الليبيون بمختلف قبائلهم وعشائرهم٬ من سرت الى بنغازي ومن مصراتة الى البريقة٬ على ضرورة إيقاف دوامة العنف والقمع إلى الأبد.

وقد أظهرت آخر الأبحاث المتعلقة بمنع الصراعات، والتسوية، والتنمية – وهي أمور تكتسي أهمية واضحة بالنسبة لليبيا – أن من بين الدروس المهمة المستقاة من المساعي الناجحة لمنع الصراعات والتسوية هو أن الضغوط المتعلقة بالأمن والعدالة والاقتصاد مرتبطة بعضها ببعض؛ وأي مناهج لحلها تقتصر على الحلول العسكرية أو القضائية أو التنموية سوف تبوء حتماً بالفشل.

بالرغم من جسامة التحديات الماثلة أمام الليبيين إذ هم يسعون لإعادة بناء وطنهم، فإن لديهم ميزة واضحة تكمن في الكم المتاح بين أيديهم من المعارف والخبرات. فإذا استفادوا منها على الوجه الأمثل، وانتهجوا نهجاً شاملاً للعدالة باعتباره أحد الدعائم الأساسية التي تقوم عليها ليبيا الجديدة، فسوف تكتسب كلمات مصطفى عبد الجليل في نهاية المطاف معناها بالكامل: "سوف نصنع التاريخ معاً، لأننا كنا جميعاً سواء في المعاناة من الديكتاتورية طيلة 42 عاماً؛ ليبيا للجميع، وسوف تكون الآن للجميع؛ من حق ليبيا أن تكون مثالاً يحتذى في المنطقة العربية."

ديفيد تولبرت هو رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية

الصورة: ليبيون يحتفلون في 24 آب/أغسطس 2011 في بنغازي بعد ان اجتاح الثوار مقر القذافي في طرابلس. GIANLUIGI GUERCIA/AFP/Getty Images