"لن يعود الطائر إلى القفص": تحليل انتخابات تونس ٢٠١٩

04/11/2019

في التاسع من أفريل سنة ١٩٣٨، أطلقت السلطات الفرنسية النار على حشد من المتظاهرين الذين تجمعوا في تونس العاصمة للمطالبة بـ "برلمان تونسي واسقاط الامتيازات"، الأمر الذي أسفر عن مقتل ٢٢ متظاهراً وإصابة  ١٥٠ آخرين بجروح.* ومن أجل تحقيق غايتهم في انتخاب برلمان تكون أصواتهم فيه ذات قيمة، كان على التونسيين الانتظار حتى اندلاع ثورة الياسمين التي أطاحت بنظام بن علي في عام ٢٠١١. أجرت البلاد في الآونة الأخيرة انتخاباتها البرلمانية الثالثة منذ الثورة والانتخابات الرئاسية الثانية التي أجريت على اثر وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في ٢٥ جويلية ٢٠١٩. بقي أن نرى فيما إذا كانت نتائج هذه الانتخابات ستكون فاتحة حقبة جديدة من الكرامة  التي من أجلها خرج التونسيون إلى الشوارع في عامي ٢٠١٠ و ٢٠١١.

بعد انتخابات ٢٠١٤، التي أدلى فيها التونسيون بما يسمى بـ"التصويت المفيد" الذي مكن نداء تونس والباجي قايد السبسي من الوصول إلى السلطة، أدلى الناخبون هذه المرة بـ"بتصويت عقابي" في كل من الانتخابات التشريعية والرئاسية. ومن بين ٢٦ مرشحًا لمنصب الرئيس، ينتمي معظمهم إلى الأحزاب السياسية القائمة ويمثلونها، اختار الناخبون سيِاسِيَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ لبلوغ الجولة الثانية من الانتخابات. على اثر الانتخابات البرلمانية، وجدت الأحزاب السياسية "التقدمية الديمقراطية" نفسها ببساطة على الهامش، حيث خسرت معظم المقاعد لفائدة الأحزاب اليمينية والأحزاب ذات الصلة بالنظام السابق. فاز نداء تونس، الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي سنة ٢٠١٤ لمعارضة النهضة، ومثل أحد الكتلتين الرئيسيتين في البرلمان خلال المدة النيابة ٢٠١٤-٢٠١٩، بثلاثة مقاعد فقط.

اختار التونسيون يوم ١٣ أكتوبر ٢٠١٩، في انتخابات حرة وشفافة، الرئيس السابع للجمهورية، قيس سعيد. ، فاز السيد سعيد بنسبة ٧٢.٧١ في المائة من الأصوات محرزاً فوزاً ساحقاً على خصمه السيد نبيل القروي. شكل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و ٢٥ سنة تسعون في المئة من الذين صوتوا لصالح السيد قيس سعيد، في حين بلغت نسبة ناخبيه الذين يدرسون أو التحقوا بالجامعة٩٠ في المئة. اكتسب السيد قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري ، صفة "مرشح الوحدة الوطنية" حيث تجمعت حوله الأحزاب اليمينية واليسارية لهزيمة السيد قروي، وهو رجل أعمال اتُهم بغسل الأموال والتهرب الضريبي، وأطلق سراحه من السجن فقط مؤخرًا. يتولى السيد سعيد منصبه بتفويض قوي وإحساس بالشرعية، يدعمه ثلاثة ملايين ناخب، وهو عدد أكبر بكثير من ١.٧٥ مليون ناخب الذين صوتوا  لصالح الباجي قائد السبسي في عام ٢٠١٤. 

مثلت المرشحات عمومًا ١٤.٥ بالمائة فقط من قوائم المرشحين البالغ عددها ١٥٠٦. على الرغم من كل الجهود التي يبذلها المجتمع المدني لتحقيق التناصف بين الجنسين، لن تصبح  نائبات في البرلمان الجديد سوى ٣٠ امرأة فقط ، مقارنة بـ ٨٠ نائبة في برلمان ٢٠١٤-٢٠١٩. تتوافق هذه النتيجة الكئيبة جيداً مع تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة ٢٠١٨ عن الفجوة بين الجنسين على مستوى العالم، حيث خلص إلى أن الأحزاب السياسية التونسية لم تعتمد أنظمة الحصص على أساس طوعي  ومن أجل تعزيز مشاركة المرأة. كما صنف التقرير البلد في المرتبة ١١٩من أصل ١٤٩ بلداً في مجال المساواة بين الجنسين بشكل عام.

في المقابل، مثل الشباب نجوم الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. إذ لم يقتصر دورهم على كونهم قادة ومنظمين أساسيين في حملة السيد سعيد ولكنهم خرجوا بكثافة في الجولة الثانية للتصويت لصالحه. وبفضل إقبالهم، بلغت النسبة الإجمالية  للمقترعين ٥٥ في المائة - وهو رقم استثنائي مقارنة بجميع الانتخابات السابقة، بما في ذلك الانتخابات التشريعية لسنة ٢٠١٩. إن "التغيير" الذي سعى إليه هؤلاء الشباب يستلزم إعادة التأكيد على قيم النزاهة والاستقلالية.

ماذا تعني نتائج الانتخابات بالنسبة لتونس؟

عاقب الشعب التونسي في هذه الدورة الانتخابية الطبقة السياسية لأنها خيبت آماله مراراً وتكراراً على مدى خمس سنوات. حيث بدلاً من العمل على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة في البلاد وتدابير التقشف القاسية التي صاحبتها، انشغل المسؤولون المنتخبون بالحفاظ على وجودهم السياسي وبنزاعاتهم الحزبية.

بينت نتائج الانتخابات أنه حتى إزاء خلفية ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، فإن التونسيين لا يريدون أن يُقَوَّضَ الانتقال الديمقراطي في بلادهم من قبل السياسيين الذين يحاولون إبرام صفقات مع المؤسسات المالية أو النجاة من تهم الفساد.

شهدت الانتخابات الرئاسية التي كان أحد المرشحين فيها رجل أعمال ألقي عليه القبض بتهم بالفساد، حركة شبابية ضخمة تصدت مرة أخرى للتباينات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في البلاد - من خلال الخروج إلى صناديق الاقتراع بأعداد غير مسبوقة هذه المرة. كانت الرسالة واضحة، والتصويت مدوياً: لم يستطع بن علي، بآلة التزوير الضخمة التي كانت تحت تصرفه، تحقيق هذا النصر الانتخابي.

ومع ذلك، توجد تحديات في انتظار البرلمان الجديد، في ظل فسيفساء من الأعضاء المختلفين، بالإضافة إلى الرئيس سعيد ومشروعه السياسي غير العادي للجمهورية. بالتأكيد سيواجهون دفعا إلى الخلف عندما يؤكدون على شرعيتهم ويشرعون في  الوفاء بوعود حملتهم وتنفيذ جدول أعمالهم. فضلا عن ذلك ، لا يزال التونسيون يتجرعون مرارة خذلان الطبقة السياسية لهم. عند الحديث عن  توقعاتهم بعد هذه الانتخابات، أكد التونسيون  أساسًا على إيمانهم بالعدالة  وعلوية سيادة القانون ومؤسسات الدولة القوية وخبرة المختصين الذين لازالوا  يؤدون واجبهم على الرغم من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والفساد المتفشي.

الآثار المترتبة على مسار العدالة الانتقالية في تونس

لم يكن التونسيون معارضين أبدًا للعدالة الانتقالية  على خلاف ما يتم تصويره بطريقة أخرى في وسائل الإعلام والعداء السياسي لها. شُكِّلَتْ بعد الثورة مباشرة لجنتين لتقصي الحقائق ، ترأسهما نشطاء وأكاديميون بارزون عملوا مجانًا لمدة عام ونصف تقريبًا. قدمت كل لجنة تقريرًا نهائيًا يتضمن نتائج وتوصيات تم نشرها على نطاق واسع على الجمهور، ولا يزال كلاهما يتمتعان بالملكية المجتمعية. أثناء كلتا الانتخابات لهذا العام، وصف المرشحون الذين تحدثوا عن العدالة الانتقالية، بما في ذلك الرئيس المنتخب حديثًا ، بأنها شرط مسبق للحقيقة والمصالحة.

لقد حقق قانون العدالة الانتقالية الشامل، الذي صدر بناءً على نتائج الاستشارة الوطنية، الكثير من الانجازات. غير أن التونسيين لازالوا للأسف يتذكرون الكثير من أوجه القصور التي شابت هذا المسار، مثل تعيين أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة وفقا للولاء الحزبي (TDC)، والطريقة التي أسيء بها إدارتها، والتناحر الداخلي الشديد والوقت الثمين الذي ضاع بسبب ذلك. لذا فالبرلمان الجديد مدعو اليوم لاستخلاص العبر من هذه الأخطاء الماضية.

إن الطبقة السياسية الجديدة برمتها - الرئيس والبرلمان والحكومة التي سيشكلانها – ملزمة ،اليوم وفي المقام الأول، قانونًا وأخلاقًا، بحماية حقوق المواطنين التونسيين الذين كانوا ضحايا عنف أجهزة الدولة. يجب على هؤلاء المسؤولين المنتخبين حديثًا أن يضعوا حدا لموقف المتفرج السائد الذي أدى إلى اختزال مسار العدالة الانتقالية الوطني الجريء في مسار يخدم غايات شخصية وسياسية على كلا الجانبين.

بادئ ذي بدء، يجب على الحكومة الجديدة إصدار قائمة جرحى و شهداء الثورة في الرائد الرسمي. ينبغي عليها أيضًا نشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة (TDC)، والأهم من ذلك، إظهار الإرادة السياسية لإجراء إصلاحات. يجب على البرلمان ، علاوة على ذلك ، مراقبة تنفيذ هذه الإصلاحات من خلال لجنة برلمانية على النحو المنصوص عليه في المادة ٧٠ من قانون العدالة الانتقالية.

يجب أن تتضمن الخطة التنفيذ الفعال "لصندوق الكرامة وإعادة الاعتبار لضحايا الاستبداد" ولمطالبات جبر الضرر لأكثر من ٢٠،٠٠٠ ضحية.

وبينما تدرس الحكومة الجديدة أفكارًا لتعزيز المصالحة، فقد يكون من الحكمة إعادة النظر في التوقعات التي عبر عنها التونسيون في الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية لعام ٢٠١٣. ينبغي أن يتذكروا حاجة الشعب التونسي الماسة إلى الشعور بأن بلدهم بصدد إقامة العدالة عن جميع الانتهاكات التي ارتكبتها الديكتاتورية وأنه  بصدد إعادة تأهيل الضحايا والتأكيد على كرامتهم.  

إن الدوائر المتخصصة، التي أحدثها قانون العدالة الانتقالية، ليست بمنأى عن العيوب، لكنها تظل الأمل الأخير للعديد من ضحايا التعذيب وغيره من الانتهاكات. توجد اليوم فرصة لتحسين أدائها. أولاً، ينبغي تعديل قانون العدالة الانتقالية لضمان تطابقه التام مع الدستور. ثانياً، يتحتم اعتماد سياسة استمرارية الخدمة للقضاة المعينين في الدوائر التي تحميهم من الضغوط أو التأثيرات الخارجية التي لا مبرر لها وتمنحهم مساراً واضحًا للمضي قدمًا في حياتهم المهنية. أخيرًا، يجب الشروع في عصف ذهني بشأن تشريع محتمل يحمي الضحايا والشهود ، وهو ما تفتقر إليه البلاد حاليًا في مجلاتها القانونية.

وفاة في الوقت المناسب

عندما توفي بن علي في ١٩ سبتمبر ٢٠١٩، استحضر الكثيرون مرة أخرى حياة الطبقة المتوسطة المريحة نسبياً التي تمتع بها التونسيون خلال فترة حكمه التي استمرت ٢٣ عامًا. بينما كان الضحايا الوحيدين الذين تحدثوا بصراحة عن الانتهاكات التي تعرضوا لها. صحيح أن الطبقة الوسطى ازدهرت خلال الحقبة الديكتاتورية، لكن التهميش الاجتماعي والاقتصادي ازداد تفاقما في الوقت نفسه. إن هذا التباين الشاسع والمؤلم بين التونسيين، الذين يتقاسمون جميعهم نفس الجنسية ويعيشون على نفس الأرض، أدى إلى اندلاع الثورة. حيث انطلقت شرارتها عندما عمد شاب يائس كان يبيع منتجاته على عربة ولم يعد بإمكانه أن يكسب قوت يومه إلى إضرام النار في جسده.

غادر بن علي هذا العالم دون تقديم أي اعتذار بعد عقدين من الديكتاتورية الدموية. لم يقتصر الأمر على تحمل الضحايا لأذى لا يوصف، بل خسرت تونس ككل وبشكل لا يُحصى، ليس على صعيد الفرص المهدورة الكثيرة فحسب، بل كذلك من حيث الفساد الراسخ الذي ربما يكون إرث بن علي الأكثر ديمومة. لم يرحل بن علي إلا بعد أن ترك خلفه أيضاً خوفًا عميقًا ومعممًا. في الديكتاتوريات، يتم استخدام الخوف كسلاح باسم الحفاظ على الأمن، ثم يرقى إلى مستوى انتهاك حقوق الإنسان. يجبر الخوف الناس على التخلي عن أحلامهم، أو مغادرة البلاد، أو ببساطة مواجهة التعذيب والموت إذا اختاروا الدفاع عن أفكارهم. هل ينبغي للمجتمع التونسي المتعلم أن ينظر اليوم إلى تلك الأوقات العصيبة بشوق لمجرد أن الوضع الاقتصادي كان أفضل؟ يمكن للمرء أن ينظر حوله فيما يحدث في الجوار الإقليمي لإدراك قيمة الحرية التي يتمتع بها التونسيون الآن.

أولويات الحكومة القادمة

إن من أكثر المهام إلحاحاً أمام البرلمان الجديد هي إجراء انتخابات لملء المقاعد القضائية الأربعة الشاغرة في المحكمة الدستورية ولضمان عمل المحكمة بفعالية. فشل البرلمان إلى حد الآن في القيام بذلك أربع مرات متتالية، وهو ما شكل نكسة كبيرة، وإن كانت مؤقتة، للبلاد. أدى الفشل في إجراء هذه الانتخابات إلى حرمان الانتقال الديمقراطي من محكمة عليا فاعلة كان يمكن أن توفر الحماية القانونية عندما توجد حاجة إليها وكشفت عن وجود طبقة سياسية أسيرة للأيديولوجية السياسية أكثر من ولائها لحكم القانون. على سبيل الذكر ، لو عرض قانون المصالحة الإدارية الذي صدر في سبتمبر ٢٠١٧، والذي ناضلت ضد تمريره حركات الشباب والمجتمع المدني بشكل مكثف لمدة ثلاث سنوات، على أنظار المحكمة الدستورية ، كان يمكن أن تصدر حكمًا يجنب الانتقال الديمقراطي هذا المأزق الكبير. 

توجد أمام الحكومة القادمة أيضًا فرصة حقيقية اليوم للنظر بحكمة في إصلاح  المؤسسة الامنية وتطوير هذا الإصلاح وتنفيذه. تعد هذه قضية شائكة لجميع حكومات ما بعد الثورة أو الحكومات التي تمر بمرحلة انتقالية، وقد صارت أكثر تعقيدًا في ظل وجود تهديدات أمنية مستمرة. إلا أن إصلاح الشرطة وما يحمله من مغزى ربما يكون الإصلاح الأكثر رمزية الذي بوسع الحكومة التونسية إجراءه في ضوء تاريخ العنف الذي مارسته الشرطة خلال الحقبة الديكتاتورية. إن وجود قوة شرطة تعي حقوق الإنسان وتحترمها بشكل أفضل يساعد على ضمان ألا تنتكس تونس إلى الديكتاتورية العنيفة. كما أنه يبني التلاحم الاجتماعي وثقة الجمهور في الشرطة، وهو أمر مهم  خاصة في أوقات الهجمات الإرهابية.

أخيرًا، يجب على الحكومة الجديدة الانخراط بجدية أكبر في عملية استرداد الأصول. يجب أن تبدأ في التفكير في حلول خلاقة حول كيفية إعادة ملايين الدولارات من الأصول المهربة إلى الخارج إلى البلاد واستخدامها للمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد الوطني، وتحرير الأجيال الشابة من عبء الديون، ودعم مسارات العدالة الانتقالية مثل صندوق الكرامة وبرامج جبر الضرر.

لا ينبغي أن تترك نتائج الانتخابات مجالا  لأي شك في أن التونسيين لا يزالون واضحي البصيرة كما كانوا دائماً في رؤيتهم لتونس خالية من القمع والفساد والتهميش. كما يجب أن تلهم هذه النتائج التونسيين على التمسك بمطالبهم  في النمو الاقتصادي والتنمية، و في عدم عقد تسوية  حتى يتحقق العدل والمساءلة والكرامة.


* ختم قيس سعيد المناظرة التلفزيونية في ١١ أكتوبر ٢٠١٩، قائلاً: "لن يعود الطائر إلى القفص، ولن يقبل بالفتات أبدًا".

الصورة: قيس سعيد في عام ٢٠١٣. (تلفزيون قناة القلم تونس / المشاع الإبداعي).